كوردستان.. الدولة التي ستنهض من رماد الاستبداد ستكون ركيزة الديمقراطية والاستقرار في المنطقة.
العوامل الذاتية لإقامة كوردستان كدولة ديمقراطية باتت شبه متكاملة، والطموح إلى القيم الحضارية لم يعد مجرد حلم، بل واقع يتشكل بخطوات ثابتة. منذ فترة وأنا أتابع عن كثب معظم الحوارات والتصريحات الصادرة عن قيادة إقليم كوردستان، بدءًا بحوار السيد مسعود برزاني الأخير، مرورًا بتصريحات رئيس الإقليم السيد نيجيرفان برزاني، ولقاءاته، وطريقة تعامله مع زعماء الدول الكبرى بثقة ودبلوماسية راقية، وصولًا إلى حوار السيد رئيس الوزراء مسرور برزاني مع قناة العربية، وما سبقه من لقاءات ومواقف دبلوماسية، هذه وغيرها من السمات، أكد لي أن الأمة الكوردية تتجه نحو مستقبل سياسي ودبلوماسي باهر.
بغض النظر عن الخلافات الداخلية، والتي يُتوقع أن تأخذ منحى أكثر ديمقراطية مع مرور الوقت، فإن تطور المشهد السياسي الكوردي يشير إلى مرحلة جديدة من النضج السياسي، فالصراع بين الحكومة والمعارضة، رغم ما قد يثيره من تحديات، هو في جوهره حالة صحية، بل ضرورة لا غنى عنها في أي دولة ديمقراطية حديثة.
ما يدعم هذا التوجه هو اللغة السياسية التي باتت تتسم بمزيد من الواقعية والدبلوماسية، وهو مؤشر على أن الحراك السياسي في كوردستان يسير نحو نموذج أكثر استقرارًا، حيث التعددية السياسية والحوارات المفتوحة تصبح جزءًا من آليات الحكم، وليس مجرد خلافات عقيمة تؤدي إلى الانقسام والجمود. إذا استمرت هذه الديناميكية في التطور، فإنها ستشكل أساسًا متينًا لدولة ديمقراطية عصرية، قادرة على احتواء التنوع السياسي والاجتماعي ضمن إطار مؤسساتي مستقر ومتوازن.
اللغة السياسية والدبلوماسية التي يستخدمها القادة الكوردستانيون في المحافل الدولية والصحافة العالمية تعكس نضوجًا سياسيًا واستراتيجية محكمة في التعامل مع بغداد، والدول الإقليمية، والقوى العالمية. فمنطق الدولة في كوردستان لم يعد مجرد فكرة، بل واقع ملموس، حيث ترسخت ملامح السيادة السياسية، رغم أن الإقليم لا يزال يُعرض رسميًا كجزء من العراق ضمن النظام الفيدرالي، إلا أن الواقع يشير إلى تعامل الدول معه ككيان سياسي مستقل، حيث تُمارس القيادة الكوردية هذا الدور بذكاء دبلوماسي رفيع.
هذا التطور يثبت أن الكورد قادرون على تحقيق نقلة نوعية تضعهم في مصاف الدول الإقليمية، بل وربما العالمية، في مجالات السياسة والدبلوماسية وإدارة الدولة الديمقراطية الحديثة، ليكونوا نموذجًا لشعوب الشرق الأوسط في بناء أنظمة سياسية حضارية، فيما لو توفرت لهم الظروف المناسبة، فالتجربة السياسية والدبلوماسية للإقليم، رغم حداثتها التي لا تتجاوز عقدين، تبدو أكثر نضجًا وتقدمًا مقارنة بدول أخرى تجاوزت القرن من الزمن في الحكم دون أن تحقق ذات التوازن أو الرؤية الواضحة.
أما في غربي كوردستان، فبالرغم من التحديات الجسام والتدخلات الإقليمية الساعية لإفشال مشروعهم، تمكنت الإدارة الذاتية بقواتها العسكرية، والحراك السياسي والثقافي، هناك من تحقيق تقدم ملموس في إيصال الصوت الكوردي إلى المحافل الدولية، ولو أن الظروف لم تكن بهذه القسوة، لكان الحراك السياسي هناك قد قطع شوطًا مشابهًا لما حققه إقليم كوردستان. ومع ذلك، فإن الإدارة الذاتية نجحت، رغم كل الصعوبات، في ترسيخ وجودها، وإبراز القضية الكوردية عالميًا من زوايا متعددة.
وفي شمال كوردستان، قطع الحراك السياسي الكوردي أشواطًا طويلة في المجال الدبلوماسي، حيث تمتلك الأحزاب والتنظيمات السياسية هناك قدرات قيادية يمكنها تسيير دولة حديثة وفق أرقى القيم الديمقراطية. مستوى الخطاب السياسي والدبلوماسي لديهم يضاهي ما هو متبع في الديمقراطيات الأوروبية، رغم مواجهتهم لحصار سياسي خانق وممارسات قمعية من قبل الدولة التركية.
أما في شرق كوردستان، فقد طور الحراك الكوردي هناك تجربة سياسية وثقافية متنامية، واكتسب خبرة كبيرة في إدارة المنظمات والتعامل مع الأنظمة الاستبدادية، حيث بات يمتلك أدوات نضالية مرنة لمواجهة نظام ولاية الفقيه بنفس الذهنية التي يدير بها النظام صراعاته ضد خصومه.
بشكل عام، فإن البنية التحتية لكوردستان كدولة باتت شبه متكاملة، رغم الخلافات الداخلية، وتدخلات الأنظمة الإقليمية، ومحاولات بعض القوى الكبرى عرقلة مشروع التحرر الكوردي. ومع ذلك، فإن الركيزة السياسية بدأت تتبلور بوضوح، والنواة السياسية للدولة الكوردية لم تعد مجرد متلقٍ، بل أصبحت فاعلًا وقادرة على التأثير في المشهد السياسي الإقليمي والدولي. المستقبل يبدو واعدًا، ومع كل هذه المعطيات، فإن تحقيق الحلم الكوردي لم يعد مجرد أمنية بعيدة، بل مسألة وقت وظروف مواتية.
فكوردستان، الدولة التي ستنهض على أكتاف شريحة ورثت عن أجدادها ويلات العنصرية والاضطهاد، ستكون ركيزة للسلام والاستقرار في الشرق الأوسط، بل وستسهم في إرساء ثقافة التفاهم والتقارب بين شعوبه، وتفتح آفاقًا جديدة للتعاون والازدهار السياسي والاقتصادي والتقدم الاجتماعي في المنطقة.
إن شعبًا عانى لقرون من القهر والاستبداد، لا بد أن يكون أكثر وعيًا بقيمة العدالة والحرية، وأكثر إصرارًا على بناء نموذج ديمقراطي يحتضن التعددية ويضمن حقوق الجميع. ومن هذا المنطلق، نأمل أن تكون شعوب المنطقة، والنخب السياسية والثقافية، شركاء في هذا المسار، وأن يسهموا في دعم المشروع الكوردي، ليس فقط كحق قومي، بل كمشروع حضاري يعيد رسم ملامح الشرق الأوسط على أسس أكثر عدلًا واستقرارًا.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
15/2/2025م