تعد القضية الكوردية في سوريا واحدة من أكثر القضايا تعقيدًا في المشهد السياسي السوري، وذلك نظرًا لتداخل العوامل التاريخية، والجيوسياسية، والعرقية في صياغة مسارها. بعد سنوات من الصراع السوري، ومع ظهور بوادر تفاوض بين الإدارة الذاتية الكوردية وحكومة دمشق، أصبح لزامًا على الكورد تحديد مطالبهم بوضوح ضمن أي تسوية سياسية قادمة. في ظل المتغيرات الحالية، يبرز السؤال حول شكل النظام الإداري الأمثل لضمان حقوقهم، ومدى ملاءمة النماذج المختلفة من الحكم لهم.
على مدار العقود الماضية، كان الكورد في سوريا يواجهون سياسات التهميش والتمييز، مما دفعهم إلى البحث عن بدائل تحقق لهم نوعًا من الإدارة الذاتية والحكم الرشيد. اليوم، ومع الحديث المتزايد عن نموذج اللامركزية كخيار لإدارة البلاد مستقبلاً، تظهر الحاجة إلى تحليل ما إذا كان الأفضل للكورد هو المطالبة بلامركزية إدارية أم سياسية، أو ربما نموذج آخر أكثر توافقًا مع تطلعاتهم القومية والسياسية.
إن الاختيار بين هذين النموذجين ليس مجرد قرار إداري أو قانوني، بل هو مسألة تتعلق بمصير الشعب الكوردي في سوريا، وبإمكاناتهم في الحفاظ على مكتسباتهم السياسية والإدارية، وتثبيت حقوقهم ضمن أي إطار دستوري جديد. من هنا، تبرز أهمية تحليل الفروقات بين اللامركزية الإدارية والسياسية، وتحديد الخيار الأكثر استدامة للكورد في ظل المعطيات المحلية والإقليمية والدولية.
الفرق بين اللامركزية الإدارية والسياسية
اللامركزية، كخيار لنظام الحكم، تتخذ أشكالًا متعددة، لكنها تُقسم عمومًا إلى نوعين رئيسيين:
1. اللامركزية الإدارية:
تتعلق بنقل بعض الصلاحيات التنفيذية من الحكومة المركزية إلى إدارات محلية، لكنها تظل خاضعة للسلطة المركزية.
تشمل مجالات مثل التعليم، الصحة، الخدمات العامة، والتنمية المحلية.
لا تمنح أي استقلالية سياسية، بل تبقى القرارات الرئيسية بيد الحكومة المركزية في دمشق.
2. اللامركزية السياسية:
تمنح الأقاليم أو المناطق سلطات تشريعية وتنفيذية واسعة، ما يسمح لها باتخاذ قرارات سيادية ضمن إطار الدولة.
توفر فرصة لإدارة القوانين المحلية، الضرائب، الموارد الاقتصادية، وحتى بعض الجوانب الأمنية.
نموذج يشبه الأنظمة الفيدرالية أو الحكم الذاتي الموسع.
المطالب الكوردية: أي نموذج هو الأفضل؟
في ظل الوضع الجيوسياسي الحالي، يحتاج الكورد إلى تحديد أولوياتهم بوضوح. هناك عدة عوامل تؤثر على طبيعة مطالبهم:
1. الواقع العسكري والسياسي:
تمتلك قوات سوريا الديمقراطية (قسد) نفوذًا على مساحة واسعة من شمال وشرق سوريا، لكنها لا تزال بحاجة إلى غطاء قانوني وسياسي لضمان استمرارية مكتسباتها.
استمرار الضغوط الإقليمية والدولية على الإدارة الذاتية يجعلها بحاجة إلى اتفاق مع دمشق دون التفريط بحقوقها.
2. المخاوف من المركزية الصارمة:
النظام السوري لا يزال يميل إلى النموذج المركزي القوي، مما يجعل المطالبة بلامركزية سياسية خطوة محفوفة بالتحديات.
أي تنازل عن المطالب السياسية قد يؤدي إلى فقدان الكورد لمكاسبهم الحالية.
3. التجارب الإقليمية:
يمكن للكورد الاستفادة من التجربة الكوردية في العراق، حيث أدى التحول إلى الفيدرالية إلى تحقيق نوع من الاستقلال السياسي.
مع ذلك، يجب تجنب الأخطاء التي أدت إلى أزمات سياسية واقتصادية لاحقًا.
الاستراتيجية التفاوضية المطلوبة
1. توحيد الموقف الكوردي:
يجب أن تخرج القوى الكوردية برؤية موحدة لمطالبها، سواء في المسار السياسي أو العسكري.
ضرورة تشكيل وفد تفاوضي مشترك يمثل جميع الفصائل والأطياف الكوردية.
2. المطالبة بلامركزية سياسية موسعة:
لا يمكن الاكتفاء بلامركزية إدارية محدودة، حيث إنها لا تضمن الاعتراف بالهوية والحقوق القومية للكورد.
ينبغي المطالبة بنظام حكم ذاتي يسمح بإدارة الموارد، التعليم، واللغة الكوردية بشكل مستقل عن السلطة المركزية.
3. المرونة والتكيف مع المتغيرات:
في حال رفض النظام السوري تقديم تنازلات كبيرة، يمكن التفاوض على مراحل انتقالية، تبدأ بلامركزية إدارية متقدمة تمهد للتحول السياسي لاحقًا.
تعزيز الدعم الدولي والإقليمي للمطالب الكوردية من خلال بناء تحالفات دبلوماسية قوية.
المحصلة
بينما تتسارع المفاوضات وتتغير موازين القوى، يجب على الكورد في سوريا تحديد أهدافهم بوضوح: هل يسعون إلى مجرد إدارة ذاتية ضمن إطار الدولة المركزية، أم أنهم يريدون اعترافًا سياسيًا أوسع بحقوقهم القومية؟ الخيار الأكثر استدامة هو المطالبة بلامركزية سياسية موسعة تضمن لهم حق التشريع والإدارة الذاتية مع إبقاء الباب مفتوحًا للحوار مع دمشق. إن تحقيق هذا الهدف يتطلب وحدة الصف، مرونة تكتيكية، ودعمًا دوليًا فاعلًا لضمان حقوق الكورد في مستقبل سوريا.