تلاشى البعث، لكن موروثه ما زال مؤثرًا. كان لا بدّ لأبواقه، ومن تربّى في مدارسه، أن يجدوا طريقًا جديدًا لمواصلة مهمتهم في بث الكراهية ضد الكورد. لم يعد بإمكانهم الصراخ علنًا بأن “الكورد خونة”، ولا اتهامهم بالمؤامرات بصيغة مباشرة كما كان يحدث في العقود الماضية، فكان الحل ببساطة هو إعادة تدوير الخطاب القديم ولكن بأسلوب أكثر تهذيبًا، أكثر التفافًا، وأكثر قدرة على خداع من لا يعرف التاريخ.
اليوم، لم يعد هؤلاء يقولون: “الكورد تهديد للوطن”، بل صاروا يتحدثون عن “المخاوف المشروعة”. لم يعودوا يتهمون الكورد بـ”العمالة”، بل صاروا يقولون إن “لديهم أجندات خارجية”. لم يعودوا يصرخون في الإعلام بأن “الكورد انفصاليون”، بل باتوا يناقشون بخبثٍ مسألة “الحفاظ على وحدة البلاد”. لم يعد بالإمكان مهاجمة الكورد بشكل فظّ، فصاروا يختبئون خلف جمل ناعمة تبدأ عادةً بعبارات وحدها كافية لكشف نواياهم، لأنها مجرد مدخل لتكرار نفس الدعاية القديمة التي استخدمها البعث لعقود، ولكن بقفازات ناعمة هذه المرة.
المثير للسخرية أن هذا الأسلوب لا يختلف في جوهره عن البروباغندا القديمة، بل هو مجرد نسخة محسّنة منها. سابقًا، كان الإعلام البعثي يصوّر الكورد كمصدر خطر دائم، كقنبلة موقوتة داخل الدولة، والآن، يواصل هؤلاء اللعبة نفسها، لكنهم يفعلونها بدهاء أكبر. ستجدهم يرددون أن “الكورد إخوتنا”، ولكنهم في الوقت ذاته يحذرون من “النفوذ الخارجي”. ستراهم يتحدثون عن “التعايش السلمي”، ولكنهم لا يخفون قلقهم من “الخيانة”. وكأن المشكلة ليست في عقودٍ من القمع والتمييز، بل في الضحية التي تجرأت على المطالبة بحقوقها!
هم يريدون أن يبدو خطابهم عقلانيًا، لكن الحقيقة أنه ليس سوى محاولة للالتفاف على الواقع. حين يقولون إنهم “ليسوا ضد حقوق الكورد”، ولكنهم “يرفضون الانفصال”، فهم في الحقيقة يلمحون إلى أن كل مطالبة بالحقوق تعني “مشروع انفصال”. وكأن الكورد لم يكونوا دومًا جزءًا من هذه الأرض، وكأنهم لم يكونوا ضحايا سياسات ممنهجة استهدفت وجودهم ذاته. وحين يحذرون من “المشاريع المشبوهة”، فهم في الحقيقة لا يقصدون سوى فكرة واحدة: الكورد ليسوا شركاء طبيعيين في هذا الوطن، بل هم طرفٌ يحتاج دومًا إلى مراقبة، وكأن وجودهم في حد ذاته موضع شك.
هذا الأسلوب ليس جديدًا، بل هو مجرد إعادة تدوير للبروباغندا البعثية، ولكن هذه المرة دون الشعارات العسكرية ودون القبضة الأمنية التي كانت تحميه. الفرق الوحيد أن هؤلاء أصبحوا أكثر حرصًا على استخدام مصطلحات حديثة، كلمات تبدو ديمقراطية، لكنها تحمل في جوهرها نفس الفكرة القديمة: “الكورد ليسوا جزءًا طبيعيًا من هذا الوطن، وحقوقهم يجب أن تظل محل نقاش، وليس أمرًا بديهيًا”.
لكن هذه المحاولات مكشوفة، لأن الكراهية لا يمكن إخفاؤها خلف الكلمات المنمقة، ولا يمكن إعادة تغليف الظلم ليبدو كأنه “نقاش وطني”. فحين يُقال إن “حقوق الكورد تحتاج إلى توافق”، فهذا يعني ببساطة أن حقوقهم ليست حقوقًا طبيعية، بل هي قضية يجب أن يقررها الآخرون، وكأنها امتياز وليس حقًا أصيلًا.
الفرق الوحيد هذه المرة أنهم يتحدثون لأنفسهم، وأصواتهم، التي كانت تملأ الفضاء يومًا، أصبحت مجرد طنينٍ مزعج، لا يثير سوى السخرية. فالعالم تجاوزهم، والتاريخ تجاوزهم، والكورد تجاوزوهم أيضًا. وما زالوا هم، بكل سخافة، يعتقدون أن بإمكانهم إيقاف عجلة الزمن ببعض العبارات المنمقة التي لم تعد تقنع حتى قائلها.
السيد ماهر حسن المحترم.
تحية.
للاطلاع:
“إرث البروباغندا البعثية، أكاذيب متوارثة في سوريا”.
إرث الدعاية البعثية، أكاذيب متوارثة في سوريا.
محمد توفيق علي