تشكل قضية تصدير نفط إقليم كوردستان إحدى أبرز القضايا التي تعكس طبيعة العلاقة بين الإقليم وبغداد، حيث تتجلى أبعادها في مزيج من التعقيدات السياسية والاقتصادية والقانونية، وبينما يصر الإقليم على التزامه بالاتفاقيات القانونية والدستورية التي تمنحه حقوقا في إدارة موارده، تواجه بغداد هذا الملف بسياسات مترددة تجمع بين المماطلة والتسويف والضغط السياسي، مما يحوله إلى أكثر من مجرد خلاف اقتصادي، مما يجعل الملف يتعدى كونه خطوة اقتصادية ليصبح محورا لصراع النفوذ والسلطة، وليس من المستغرب أن يُنظر إلى هذا الصراع على أنه مرآة للحقوق التاريخية والمطالب المشروعة لشعب كوردستان التي طالما أُهملت في معادلات السلطة في بغداد، وفي ظل هذه الأوضاع، يستمر غياب الحلول العادلة والمماطلة في منح الإقليم حقوقه المشروعة، وعلى رأسها حصته العادلة من الموارد المالية والاقتصادية، وتستند مطالب إقليم كوردستان إلى حقوق تاريخية ومساع مستمرة لضمان مشاركة عادلة في إدارة الثروات الطبيعية، والتي تُعتبر ركيزة أساسية للتنمية والأمن الاقتصادي، في المقابل، تتمسك بغداد برؤية مركزية تدفعها إلى فرض سيطرتها على قطاع النفط بالكامل، وهو ما يؤدي إلى حالة من الجمود المتكرر في المفاوضات بين الجانبين.
وعلى الرغم من إعلان وزارة النفط الاتحادية استكمال الإجراءات الفنية والإدارية لتصدير النفط عبر ميناء جيهان وفق الآليات المقررة في قانون الموازنة وتعديلاته، وأظهر الإقليم استعداده لتسليم الإنتاج إلى شركة “سومو” لتسويق النفط، استمرت الحكومة الاتحادية في فرض عراقيل بيروقراطية واستكمال موافقات إضافية، مما يشير إلى محاولة كسب الوقت أو تحقيق مكاسب سياسية على حساب مصالح الإقليم، فخلال الاجتماعات المتواصلة بين الجانبين، كان وفد إقليم كوردستان واضحا في مطالبه، حيث شدد على ضرورة حصول الإقليم على حصته العادلة من الحاجة المحلية أسوة ببقية مناطق العراق، إلى جانب ضرورة وجود آلية واضحة لضمان دفع مستحقات الشركات الأجنبية العاملة في قطاع النفط، والتي تُعدُّ ضرورية لاستقرار القطاع النفطي في الإقليم واستمرار الإنتاج، هذه النقاط الحساسة تُظهر بوضوح التباين بين التزام حكومة إقليم كوردستان بمسار القانون والشفافية، وبين التماطل السياسي من الحكومة الاتحادية الذي يتخذ من قضايا توزيع الثروات النفطية كورقة مساومة ضد مطالب الكورد وساحة لصراع السلطة والتأثير، فإن استئناف تصدير النفط لا يعد مجرد وسيلة لزيادة الإيرادات أو تعبئة الموارد المالية، بل هو رسالة سياسية تطالب بالاعتراف بحقوق كوردستان في إدارة ثرواتها الطبيعية والمشاركة الحقيقية في اتخاذ القرارات التي تشكّل مستقبل المنطقة.
لطالما عانى الكورد من التهميش في معادلات السلطة في بغداد، لمجرد مطالبتهم بحقوقهم كجزء لا يتجزأ من الدولة العراقية، وإسهامهم في تعظيم الإيرادات لتحقيق الصالح العام، فمعاناة الكورد مع سياسات التهميش ليست وليدة اليوم، بل تمتد لعقود، حيث يتم التعامل مع حقوق الإقليم ومصالحه الاقتصادية كأداة ضغط سياسي، ومن أبرز مظاهر هذه المظلومية عدم التزام الحكومة الاتحادية بصرف مستحقات الإقليم المالية رغم التزامه بالقوانين والإجراءات المطلوبة، مما يُلحق ضررا بالغا بمواطني كوردستان الذين يعتمدون على هذه العائدات في تأمين الرواتب وتمويل المشاريع الخدمية والتنموية، اضافة الى إن استمرار هذه الإشكالية سيؤدي إلى مزيد من الأزمات التي لن تقتصر على الإقليم فقط، بل ستتعدى ذلك لتشكل تهديدا مباشرا للاستقرار المالي للعراق ككل، إذ يحرم الاقتصاد العراقي من مورد إضافي كان يمكن أن يساهم في تخفيف الأعباء المالية للحكومة الاتحادية، فبدلا من اعتماد نهج اقتصادي يعزز الإيرادات الوطنية، يتم استخدام هذا الملف كورقة مساومة سياسية، مما يعكس نهجا غير مستدام في إدارة موارد الدولة.
وأضفى التدخل الدولي، كما أشارت إليه تصريحات بعض المصادر الإعلامية، بُعدا إضافيا إلى هذه المعركة السياسية، إذ اضطرّت بغداد لمواجهة مطالب خارجية بإعادة فتح مسارات تصدير النفط عبر تركيا، وهو ما يكشف عن تداخل المصالح الداخلية مع العوامل الإقليمية والدولية، ما يجعل الحل أكثر تعقيدا من مجرد اتفاق تقني أو مالي، كما جعل ذلك قضية نفط كوردستان محط أنظار العالم، فإذا ما كانت الحكومة الاتحادية تسعى حقا لتحقيق العدالة والشراكة الحقيقية، فإنه يتعين عليها احترام الاتفاقات المبرمة وعدم تعطيل مصالح الإقليم لأسباب سياسية، فالكورد، الذين تحملوا التهميش لعقود، لا يطالبون سوى بحقوقهم المشروعة ضمن إطار العراق الاتحادي، وأي تأخير إضافي في تنفيذ الالتزامات المتفق عليها لن يكون إلا دليلا آخر على استمرار وضع العراقيل أمام تحقيق الاستقرار الاقتصادي والسياسي في العراق ككل.
وفي خضم هذا المشهد السياسي المتشابك، يظل النفط عنصرا أساسيا في المشهد السياسي العراقي، حيث يتداخل مع الحسابات الاستراتيجية التي تحدد معادلات السلطة داخل الدولة، وإذا لم يتم التعامل مع هذا الملف بواقعية ومسؤولية، فإن الأزمة ستظل قائمة، واستمرارها دون حلول واقعية يعكس غياب الإرادة السياسية في تحقيق شراكة حقيقية، ويؤدي إلى مزيد من التوترات التي لن تقتصر تداعياتها على كوردستان فحسب، بل ستؤثر على الاستقرار السياسي والاقتصادي للبلاد، والمطلوب هو رسم معادلات السلطة والعدالة في العراق دون تسويف أو مماطلة فالمسائل السياسية والحقوق التاريخية لا يمكن تجاهلها خلف ستار القرارات الاقتصادية، اضافة الى ضرورة رسم إطار قانوني واضح ومتفق عليه يضمن توزيعا عادلا للثروات الطبيعية ويمنع استخدامها كأداة ضغط سياسي، وهو ما يتطلب التزاما فعليا من جميع الأطراف بمبادئ الشراكة والعدالة.