في مسار التاريخ السياسي، لم تكن الدول التي تبنى على القهر والإقصاء قادرة على تحقيق الاستقرار أو الاستدامة، كما وإن محاولات إعادة إنتاج الأنظمة القمعية، تحت غطاء الشرعية السياسية، ليست إلا امتدادًا لدورات الاستبداد التي أثبتت فشلها عبر الزمن، كما قال الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي: “الأزمة تكمن في أن القديم يحتضر، بينما الجديد لم يولد بعد“، وهكذا تقف سوريا اليوم عند مفترق طرق، حيث يتم إجهاض أي فرصة لنظام سياسي ديمقراطي تعددي، ليُستبدل بواقع يُعاد فيه تدوير القمع، تحت إشراف القوى الإقليمية التي تتلاعب بمصير الشعب السوري.
في قلب هذا المشهد المأساوي، برز الدور التركي الفاجر، الذي لم يكتفِ بتغذية الصراع، بل عمل بشكل منهجي على إعادة تشكيل الخارطة السياسية السورية وفق مصالحه القومية التوسعية، متجاوزًا بذلك حتى حدود الاستعمار التقليدي، إذ أصبحت تركيا ليست مجرد فاعل في الأزمة، بل القوة التي تعيد هندسة مستقبل سوريا، وفق أجندة تعيد إنتاج مركزية استبدادية بواجهة إسلامية موجهة، لا تختلف عن النموذج الكمالي الذي حكم تركيا بالقهر والتفرقة العرقية والطائفية.
لقد رسمت تركيا جميع حدود مؤتمر الحوار الوطني السوري، وكأنها تتعامل مع ولاية تابعة لها تُدار من أنقرة، حيث أشرفت على كل مراحله، بدءًا من تحديد آلياته ومساراته، إلى تعيين اللجنة التحضيرية، وتحديد أجندة الحوارات، وانتهاءً بصياغة البيان الختامي، الذي هو جاهزًا سلفًا، مع السماح، ربما، بتعديلات طفيفة، لا تتجاوز السقف المرسوم مسبقًا، وهذا ليس إلا امتدادًا لمشروعها السياسي الرامي إلى إخضاع المكونات السورية لهيمنة النظام التركي، عبر إعادة إنتاج نظام مركزي يخدم استراتيجيتها في المنطقة.
أحد أخطر أبعاد التدخل التركي كان فرض إطار سياسي مُقيّد وموجه للحكومة الانتقالية، وهيمنة فردية على تشكيل المؤتمر الوطني السوري، وذلك من خلال استبعاد الهيئات والمنظمات التي تمثل التعددية السورية، والاكتفاء باختيار شخصيات فردية يسهل التحكم بها.
هذه السياسة ليست سوى امتداد لمنطق الرفض المطلق لأي نموذج لا مركزي للحكم، وبالأخص النظام الفيدرالي، الذي يمثل تهديدًا لمصالح أنقرة التوسعية، والتي على أسسه طالبت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بحل ذاتها، وإلحاقها بوزارة دفاع شكلية، تُدار فعليًا من قبل الاستخبارات التركية.
هذه الخطوة ليست سوى إعادة إنتاج مكشوفة لنموذج “الجيش السوري الحر“، الذي لم يعد أكثر من ذراع عسكرية لأنقرة، تُستخدم كمرتزقة لتنفيذ أجنداتها في الشمال السوري.
بالتالي، فإن أي نتائج تخرج من هذا المؤتمر ستكون محض انعكاس للإرادة التركية، وليست انعكاسًا للإرادة الوطنية السورية، سيتم تهميش حقوق المكونات السورية، وعلى رأسها القضية الكوردية، التي ستُختزل إلى مستوى “حق المواطنة”، وفق التصور التركي لمفهوم الأقليات، والذي ردده الجوكر حسن الدغيم رئيس لجنة التحضير للمؤتمر، تمامًا كما فعلت أنقرة مع الكورد في تركيا، عندما سمحت بفتح مدارس منسية لتدريس اللغة الكوردية، أو قنوات ناطقة بالكوردية تعمل على تدمير الوعي القومي أكثر مما تخدمه، هذا هو النموذج الذي يُراد تصديره إلى سوريا، حيث يتم تحويل الحقوق السياسية إلى هبات شكلية، تُستخدم كأدوات للتضليل والتغطية على الإقصاء الممنهج.
إن مشاركة بعض الشخصيات الكوردية في هذا المؤتمر لم تكن سوى طعنة في خاصرة القضية الكوردية، حيث ساهموا في شرعنة مخرجات مؤتمر لا يعترف أصلًا بالوجود الكوردي كحقيقة تاريخية وجغرافية، بل يعيد إنتاجه كملف يمكن التفاوض حوله وفق المصالح الإقليمية. القضية الكوردية ليست مجرد نسبة ديموغرافية في معادلة سياسية، بل هي قضية جغرافيا وتاريخ ونضال قرن كامل ضد مشاريع الإقصاء والتهميش والتدمير الممنهج، وكما قال نيلسون مانديلا: “الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع“، فإن الحقوق الكوردية لن تأتي من مؤتمرات صيغت في غرف الاستخبارات التركية، بل من مشروع سياسي مستقل يستند إلى الإرادة الوطنية الحرة.
لا يمكن لأي حكومة سورية أن تتعامل بجدية مع القضية الكوردية ما دامت أنقرة هي من تتحكم في قرارها السياسي والعسكري، وما دام مؤتمر الحوار الوطني السوري جزءًا من مخطط الإقصاء الذي تديره تركيا، تمامًا كما فعلت في ليبيا وأذربيجان وأماكن أخرى، حيث تحولت إلى قوة مرتزقة توظف النزاعات لمصالحها القومية.
لهذا، فإن الموقف الكوردي لا يجب أن يكون مجرد اعتراض أو احتجاج، بل قرار استراتيجي بالمقاطعة الكاملة لهذا المؤتمر ومخرجاته، والعمل على عقد مؤتمر وطني حقيقي في غربي كوردستان، يضم القوى السياسية الفاعلة في المنطقة، بهدف صياغة دستور ديمقراطي يعبر عن الإرادة الشعبية الحقيقية، ويرسم خارطة طريق سياسية مستقلة عن الإملاءات التركية.
وكما قال جون لوك: “الدولة العادلة لا تُبنى على القوة، بل على العقد الاجتماعي القائم على الإرادة الحرة للشعوب“، فإن بناء مستقبل عادل لسوريا لا يمكن أن يتم من خلال قرارات مفروضة خارجيًا، بل عبر حوار وطني حقيقي، ينطلق من الداخل، لا من العواصم التي جعلت من سوريا ساحة لتصفية حساباتها الإقليمية.
ويقول الفيلسوف الأمريكي جون ديوي: “الديمقراطية تبدأ عندما يكون للأفراد القدرة على تقرير مصيرهم“. وهذا هو جوهر القضية الكوردية، النضال من أجل تقرير المصير، بعيدًا عن الإملاءات الخارجية والهيمنة الإقليمية، وبناء وطن جامع يستند إلى قيم الحرية والمساواة والعدالة.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
241/2/2025م