الجميع حضر في قاعة مؤتمر دمشق إلا الوطن! – د. محمود عباس

 

 

غاب الوطن، وحضر الإقصاء والتهميش في المؤتمر الذي عُقد في دمشق يومي 24-25 فبراير 2025.

مؤتمر يمكن وصفه بأي اسم، إلا أن يُطلق عليه “وطني”، فقد كان أقرب إلى مجلس تصفية لمفاهيم الوطنية الجامعة، ومنصة لإضفاء الشرعية على الإقصاء بدلاً من أن يكون منبرًا للحوار والمصالحة.

وحين رأى الوطن من اجتمعوا في قاعة المؤتمر، تمزق أشلاءً منه، وغادر مذلولًا، متجهًا نحو أروقة سجن صيدنايا! أما أجزاؤه الأخرى، فوجدت نفسها ممزقة بين الصراع والضياع في المنافي، وكأن الوطن أصبح حائرًا بين أن يكون سجينًا داخل حدوده أو تائهًا خارجه.

غادر كما يغادر القيم والمبادئ حين يُستبدل بها الاستبداد والاستعلاء، وكما يهرب النور من العتمة، وكأن الوطن كان يعلم أن صوته لن يُسمع، وأنه ليس إلا غريبًا في قاعةٍ اجتمع فيها من اعتادوا استغلاله دون أن يعترفوا بوجوده الحقيقي.

وأنا الذي ألهث خلفه، وأتمسك بتلابيب ثيابه، وأحاول أن أحمي ذاتي تحت عباءته، وأتفيأ ظله، بحثتُ عن الوطن بين أروقة المؤتمر، لكنني لم أجد سوى أذيال الخيبة، فقد كان كرسيه خاليًا، غائبًا كما لو لم يكن يومًا هنا. والأغرب من ذلك، أن رعاة المؤتمر لم يلحظوا غيابه أصلاً، لأنه لم يكن مدعوًا منذ البداية، ولم يكن حضوره يعني لهم شيئًا، فقد كان الوطن بالنسبة إليهم مجرد أداةٍ للاستخدام، لا كيانًا حيًا نابضًا بالإرادة والحقوق.

منذ سقوط النظام البائد، لم يكن الوطن معهم، بل كانوا قد حصلوا على رخصة استخدام، كأنهم حصلوا على وثيقة ملكية زائفة لوطن غائب، بينما الوطن الحقيقي كان منفياً في المهجر لأكثر من نصف قرن، مغيّبًا عن القرار والمصير. لم يكن يعنيهم إن كان الوطن راضيًا أم ساخطًا، حاضرًا أم غائبًا، إذ لم تكن موافقته يومًا في حساباتهم، تمامًا كما لم تكن مصالحه وأحلام أبنائه في أجنداتهم.

هذا ما قصده الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط حين قال:

الوطن ليس مجرد أرض نعيش عليها، بل هو فكرة العدالة التي نحيا من أجلها، وحين يتم تغييب هذه الفكرة، يصبح الوطن جسدًا بلا روح، يُباع ويُشترى في سوق المصالح.”

لم يكن المؤتمر إلا امتدادًا لسلسلة من محاولات تهميش القوى الحية في سوريا، فقد جمع في جوهره كل ما يتنافى مع الوطنية ويعاديها. تحوّلت القاعة إلى منصةٍ للإقصاء، وليس للتفاوض، وإلى منبرٍ للخطابات المسمومة التي عبّرت عن عداءٍ سافر للكورد وحراكهم، مستخدمةً عبارات متنوعة وأقنعة مختلفة، لكنها جميعًا حملت الوجه نفسه، وجه الإقصاء والرفض.

لكن هذا العداء، وإن استهدف الكورد بشكل مباشر، إلا أنه يكشف عن ذهنية إقصائية أوسع، ترفض الاعتراف بجميع المكونات الأخرى التي تطالب بسوريا فيدرالية لامركزية، تتسع لجميع أبنائها كوطن مشترك يقوم على العدالة والمساواة.

وهنا يكمن جوهر المأساة، فالتاريخ يُعيد نفسه، والأنظمة التي تظن أن الحل يكمن في القمع والإقصاء، لن تفلح إلا في إعادة إنتاج الفشل ذاته. وكما قال المفكر السياسي حنا آرندت:

الأنظمة التي تقوم على الإقصاء والاستعلاء، لا تبني الأوطان، بل تصنع القبور، وحين تصل إلى لحظة الحقيقة، تجد نفسها محاطة بركام من الأوهام.”

نأمل أن تراجع الحكومة السورية الانتقالية الحالية أو القادمة ذاتها، وألا تسلك الطريق الذي سلكته الأنظمة السابقة بأوجه مختلفة، وألا تعيد إحياء الصراع الكوردي الذي أشعلته الأنظمة العنصرية المتعاقبة.

يجب أن تدرك جيدًا أن جميع تلك الأنظمة قد فشلت في محاولاتها للقضاء على القضية الكوردية عبر التهميش والإقصاء. وبالتالي، فإن أي محاولة مشابهة ستلاقي المصير نفسه، لأنها تواجه قضية قومية عريقة، أقدم من كل الأنظمة التي حكمت المنطقة، وأبعد وأعمق من مجرد نسب ديموغرافية، فهي متجذرة في التاريخ والجغرافيا والثقافة، ومبنية على الإيمان بالوطن.

كما قال جون ستيوارت ميل:

الوطنية الحقيقية لا تُقاس بعدد من تستبعدهم، بل بقدرتك على أن تجعلهم شركاء حقيقيين في بناء المستقبل.”

في خضم هذا المشهد القاتم، يظل الحراك الكوردي نموذجًا لنضالٍ يطمح إلى وطن جامع، لا وطن مقسم بين المنتفعين والموالين والمرتزقة، ومن خلال صراعٍ مريرٍ ضد التهميش والإقصاء، لم يكن هدف الكورد مجرد اعترافٍ رمزي، بل وطنٌ يتسع للجميع، حيث لا تكون المواطنة امتيازًا يُمنح وفق الولاء، بل حقًا أصيلًا مستندًا إلى العدالة والمساواة.

وهنا نعيد التذكير بكلمات الزعيم الكوردي ملا مصطفى برزاني حين قال:

نحن لا نقاتل من أجل الانفصال، بل من أجل أن يكون لنا وطنٌ نحيا فيه بكرامة.”

إن التوافق مع الحراك الكوردي والاستجابة لمطالبه العادلة ليس مجرد خيار سياسي، بل هو السبيل الوحيد لتحقيق السلام والاستقرار في المنطقة.  من يظن أن الإقصاء والتهميش أدواتٌ فعالة للحكم، لن يحصد إلا مزيدًا من الفوضى والتآكل الداخلي.

يا من جلستم في المؤتمر، وتجاهلتم الوطن، وسعيتم إلى تكريس الإقصاء، إن الوطن لا يُختزل في قراراتكم، ولا يُمحى بغيابه عن مؤتمراتكم، سيبقى الوطن حاضرًا في ذاكرة من يؤمنون به، ولو حاولتم طمسه ألف مرة.

يا من تمثلون الحكومة السورية الانتقالية، إذا أردتم بناء وطنٍ حقيقي، فعليكم، التحرر من الإملاءات الخارجية وتحديدا التركية، والتخلي عن عقلية الإقصاء والاستعلاء، والاعتراف بجميع المكونات كشركاء، لا كأتباع أو أعداء، فالتاريخ لا يرحم من يكرر أخطاء من سبقوه، ومن لا يتعلم من الماضي، يحكم على نفسه بالسقوط في المستقبل.

 

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

mamokurda@gmail.com
23 فبراير 2025

One Comment on “الجميع حضر في قاعة مؤتمر دمشق إلا الوطن! – د. محمود عباس”

  1. مع احترامي لك يا استاذ الكريم. في الحقيقة انتم الكتاب و مثقفين و القادة و أحزاب الكورد جلتم أنفسكم مهزله أمام العالم و الشعوب. ولا فائدة منكم. و الكوردستان حي و الشعب ميت و فقط اسم . لك تحياتي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *