التحرر من الماضي/ كامل سلمان

ليس سهلاً التحرر من الماضي خاصة إذا كان الماضي يحمل إرتباطاً عاطفياً دينياً وفيه من القصص التراجيدية والملاحم البطولية المشهودة تأريخياً ، الماضي في هذا الحال يصبح روح الحاضر وقد ينال القدسية ويصبح هو كل شيء ، حينها يكون مستحيلاً التحرر منه بل القانون وطريقة الحكم والتقليد وحتى التدريس كلها سوف تخضع للماضي ، الحقيقة هذه ليست عيباً يعاب به المجتمع ولكنه يتحول إلى عيب عندما يكون هذا الماضي مانعاً للتواصل مع ركب المجتمع البشري الذي بالتأكيد سيتركنا خلفه ويبتعد عنا كثيراً ، هذا الرصيد التأريخي الذي أسمه الماضي أصبح بالنسبة لنا عبء بدل أن يصبح محفز كالعملة التي سقطت ولم يعد يتداولها الناس ، فالاحتفاظ به مجرد قيمة رمزية وليست قيمة عملية . المفلسون تحولوا إلى عبدة الماضي ويعرفون أنهم لا يملكون من الحاضر شيئا وعملتهم لايمكن صرفها في الحاضر ولا يستطيعون رؤية المستقبل حالهم حال أصحاب الكهف ، ثلاثمائة عام في الكهف كانت كفيلة أن تعزلهم عن العالم تماماً ، فعندما عادوا للحياة عادوا لزمان غير زمانهم فأصابتهم الصدمة فمابالك إذا كان هذا الماضي أكثر من الف عام ، الماضي يبقى ثروة إنسانية نستفيد منه لا يمكن الإستغناء عنه ولكن المقصود التحرر من قيود الماضي التي تمنع رؤية الحاضر والتطلع نحو المستقبل .. التحرر من الماضي يعني ببساطة تفجير طاقات الإنسان بشكل لا يتخيله العقل ، ويمكن تشبيه ذلك بتركيبة الذرة ، كلنا سمعنا عن التفجير النووي أو التفجير الذري ، لمن لا يعرف هذه المعلومة بأن التفجير الذري هي عملية تحرير الطاقة الموجودة في داخل النواة من الذرة ( أصغر جزيئة من المادة ) وهذه الطاقة المتحررة من النواة هي طاقة هائلة تصل حرارتها إلى مليون درجة مئوية وحزمة من الإشعاعات كلها داخل الذرة ، هذا ما كشفه العلم وصدم به العقل البشري ، وكذلك تحرير الإنسان من الماضي عند المجتمعات المتقدمة أدى إلى تفجير طاقة الإنسان وجعلته طاقة هائلة يتلاعب بمجرى الحياة كيفما يشاء ، فلماذا نخشى من تفجير طاقاتنا بتحرير أنفسنا من الماضي ؟ هناك رأيان يستحوذان على عقولنا يمنعان عنا الاقتراب من فكرة التحرر من الماضي . الرأي الأول هو رأي رجال الدين الذين يعتبرون التحرر من الماضي بمعنى التخلي عن الدين والإبتعاد عن الصراط المستقيم بأعتبار أننا الأن على الصراط المستقيم أو بالأحرى نحن الأن ملائكة تمشي على الأرض بفضل التصاقنا بالماضي ، والرأي الثاني هو رأي المفلسين العاجزين عن مواكبة التطور فيتشبثون بالماضي لسد الفراغ العقلي . رجال الدين لا يؤمنون بشيء أسمه تفجير طاقات الإنسان ، فكل شيء ينسبونه لله ، وبما أن رجل الدين مرتبط بنصوص ثابته فهو نفس رجل الدين الذي عاش قبل الف عام لأن نفس النصوص هي موجودة قبل الف سنة وأكثر بلا تغيير وبلا فارق وبلا تطور ، ولو تقدم المستقبل مليون سنة للأمام سيبقى رجل الدين هو نفسه لا يتغير ، فهو حجر ثابت ، إذا أعدته الف عام للوراء أو الف عام للأمام فهو نفسه ، ليست المشكلة أن يبقى حجر ثابت ولكن المشكلة أن يتحول إلى حجر عثرة يمنع المجتمع من التغيير ، وهذا ما يحصل في واقع مجتمعاتنا ، أما المفلسون والعاجزون عن تقديم شيء جديد للمجتمع وللحياة فبالتأكيد سيحاربون فكرة تفجير طاقات الإنسان فيلتجأون هم ورجال الدين إلى إظهار بعض العيوب الأخلاقية في المجتمعات التي استطاعت تفجير طاقاتها ، يتمسكون بعيب اخلاقي محدد ويعيبونه ويغضون الطرف عن المحاسن العظيمة التي أثمرت من العقول المتغيرة .. العاجزون ورجال الدين كلاهما لهم طريق واحد للحفاظ على الماضي وهو العنف والدجل ، العنف من خلال السلاح والدجل من خلال الأكاذيب . لم يكن الدين في يوم من الأيام شيء سيء ، فالدين معيار روحي ثمين وعظيم يرفع من قيمة الإنسان ، ولكن كل شيء حسن ممكن تحوله إلى شيء سيء إذا ساء توظيفه ، وهذه هي مشكلتنا لأنّ أدعياء الدين يفهمونها من زاوية ضيقة .. فلو قلنا أن البضاعة السيئة يمكن تسويقها بنجاح للناس بالدعاية كذلك نستطيع القول أن الأفكار السيئة يمكن تسويقها حين تغلف بالدين . فلا نستغرب أن نجد الناس يحشرون الدين في كل شيء في التجارة في الحروب في الحوارات في المشاكل العشائرية في السمعة ، فيستطيعون قتل الحقيقة لأنه لا أحد يتجرأ على رفع غطاء الدين عن من هم أتخذونه زياً . من حقنا جميعاً أن نفتخر بماضينا ولكن ماضينا لا يعطينا حق التفوق على الأخرين لأن حق التفوق نحن من نصنعه ، عندما صنع أسلافنا وجودهم بين الأمم لم يكونوا يعرفون شيئاً عن ماضيهم ولم يكن ماضيهم حاضراً بين أيديهم ورغم ذلك صنعوا لهم وجود بين الأمم ، وهكذا لكل جيل وجود ، فعندما يصيبنا وباء فايروسي ما قيمة ماضينا لدرء الخطر عن أنفسنا ، مع وجود ماضينا العريق نذهب ونتوسل بالأمم التي ليس لها ماض ليتصدقوا علينا باللقاح ، وإذا سألونا لماذا لا تنتجوا أنتم بأنفسكم اللقاح سنجيبهم بأن ماضينا أشرف وأفضل من ماضيكم ، فهل مثل هذا الجواب ينم عن عقول راشدة ؟ . نحن نريد أجيالنا وأبناءنا يفهمون الأمور بهذه الكيفية كي لا يقعوا بنفس الخطأ الذي وقعنا فيه وتشرذمنا بين الأمم . هل رأيتم ياباني أو أوربي أو صيني أو أمريكي يتفاخر بأن ماضيه هو حاضره ؟

2 Comments on “التحرر من الماضي/ كامل سلمان”

  1. رائع كالعادة استاذ كامل سلمان المحترم..
    توقيف الزمن بالمجتمع بالماضي.. لانهم يعلمون انها تجارة تدر عليهم المال والنفوذ والنساء.. لذلك يمنعون اي انفتاح بعقول قطيعهم هذا هو دور رجال الدين..
    لو لم تكن تجارة المؤسسات الدينية تدر المليارات المليارات.. قد لا يبقى دين اصلا..
    بيوت الدعارة تستحيل ان تعلم الشرف ببيوتها.. كذلك رجال الدين بيوتهم (المعابد) مستحيل ان تعلم الانفتاح والتطور والتقدم.. لان عند ذاك بضاعتهم (الجهل) ستبور..
    لا اقول بيوت الله.. بل اصبحت بيوت رجال الدين المتاجرين بالجهل ..

    1. الاخ حسين كاظم ، تحياتي وتقديري لمتابعاتك المستمرة وتعليقاتك الجميلة وإضافاتك الدقيقة ، كل التقدير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *