كاتب وباحث سياسي
لا يزال المكون الكُردي في سوريا يعاني من التهميش والإقصاء، حتى بعد مرور أربعة عشر عامًا على المأساة السورية. فبينما تتفاقم الأزمة وتزداد التحديات، يستمر البعض في محاولات خداع هذا الشعب الأصيل الذي عاش على أرضه منذ آلاف السنين. شعارات براقة يتم ترديدها دون أن تراعي خصوصية الشعب الكُردي وحقوقه الأساسية، التي لا يمكن التنازل عنها أو تجاهلها. فكلما تحدثنا عن القضية الكُردية، نجد أنفسنا أمام محاولات خبيثة للتهرب من الاعتراف بها، بل وأحيانًا تُختزل في مفاهيم سطحية لا تمت بصلة لحقيقة التاريخ الكُردي في سوريا.
حيث يتم مداعبة مشاعرنا ويقولون لنا أنتم الكُرد، أهلنا وجيراننا، تعلمنا منكم الكثير وأخذنا من ثقافتكم وأرثكم ما يعزز مكانتنا المشتركة في هذا الوطن. حيث يقول أحدهم لقد تعلمت بعض الجمل الكُردية التي تدل على عمق العلاقة بيننا، مثل “روچ باش” التي تعني “صباح الخير” و“از ته حزدكم”التي تعني “أحبك”. هذه الكلمات ليست مجرد كلمات، بل هي جزء من هوية ثقافية مشتركة بيننا. يتم من خلالها استمالة العاطفة لدى الكورد ومع ذلك، رغم هذه الروابط العميقة بيننا، يظل هناك من يحاول إقصاء القضية الكُردية عن طاولة النقاش الوطني في سوريا، ويعمد إلى تجاهل حقوق الشعب الكُردي كأنه لا وجود لهم أو كأنهم مجرد أقلية تحتاج إلى المراعاة فقط في المناسبات، وفي أحسن الأحوال تكون حقوقهم مجرد مطالبات صغيرة لا تصل إلى مستوى الاعتراف الكامل.
منذ اتفاقيات لوزان وسيفر وسان ريمو في إيطاليا التي جرت فيها تقسيمات جغرافية وفرضت واقعًا مريرًا على الشعب الكُردي، تم إقصاؤهم من المشاركة الحقيقية في تقرير مصيرهم وحقوقهم، فتوزعوا بين أربع دول ناشئة: سوريا، العراق، إيران، وتركيا. ومنذ تلك اللحظة، بدأ الكُرد في معاناتهم المستمرة من التهميش، الإقصاء، القتل، والإبادة، والتهجير وهي معاناة لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا. فأثناء حكم صدام حسين في العراق، كان يتغنى بالأخوة العربية الكُردية في الوقت الذي كان يشن فيه مجزرة الأنفال التي راح ضحيتها أكثر من 170 ألف مواطن كُردي، من رجال ونساء وشيوخ وأطفال، وكانوا في سوريا من تعرضوا لحملات قمعية متواصلة بهدف محو أي أثر ثقافي أو لغوي كُردي.
في إيران، كان شاه محمد رضا بهلوي أيضًا يتغنى بالأخوة الكُردية، بينما كان يهاجم أراضي جمهورية مهاباد، ويقضي عليها بشكل وحشي، حيث شنق رئيسها قاضي محمد ووزراءه. وفي تركيا، لم يكن الحال أفضل، حيث تم إلغاء الهوية الكُردية، وتحولت المناطق الكُردية إلى ساحات قتل ودمار، ولا تزال هذه الممارسات مستمرة تحت حكم النظام التركي.
أما في سوريا، فمازال الشعب الكُردي يناضل منذ استقلال البلاد من أجل تحقيق المواطنة الحقيقية والمساواة في الحقوق والواجبات. لكن هناك عقلية عنصرية ترفض هذا التنوع وتصر على تغييب الهوية الكُردية عن مجريات الأمور السياسية في سوريا. هذه العقلية لا ترى في القضية الكُردية إلا محاولة للحصول على وظيفة أو ختم جواز سفر أو ورقة عبور من المخاتير، وكأن الشعب الكُردي لا يطلب سوى «حقوقه البسيطة»، أخراج قيد ورقة وفاة موافقة على حفر بئر أو رخصة بناء الشعب الكوردي لديه حقوق قومية لا يجوز ونرفض إنكارها وتسميتها بالمظلومية
لن نقبل بأقل من بنود ما فوق دستورية تتضمن حل القضية الكوردية وفق المواثيق والقوانين الدولية ودون أن يعترف أحد بحقوقه الأساسية كمكون قومي له ثقافة، لغة، وتاريخ يمتد لآلاف السنين.
نحن لا نقبل بهذا التشويه ولا نرضى بالاختزال في عفرين أو كوباني أو القامشلي. نحن شركاء في كل سوريا، جزء لا يتجزأ من نسيج هذا الوطن المتنوع، ولا نريد أن يتم اختزالنا أو تهميشنا باسم “المواطنة” التي لا تشملنا. نحن نطالب بما نحقه تمامًا مثل أي مكون آخر في هذا الوطن، ونرفض أن يتم القفز فوق القضية الكُردية أو التلاعب بمطالبنا السياسية.
أي حوار وطني أو دستور جديد لا يعترف بهوية الشعب الكُردي وخصوصيته هو حوار غير شامل وغير حقيقي. لا يمكن لسوريا أن تكون ديمقراطية حقيقية دون الاعتراف بكافة مكوناتها الثقافية والاجتماعية. نحن نرفض تمامًا أن تُسمى الجمهورية بـ “الجمهورية العربية السورية”، فهذا يشوه الهوية الوطنية ويقوض العدالة والمساواة بين كل مكونات الشعب السوري. سوريا هي سوريا للجميع، دولة متعددة القوميات والديانات، تضم الكُرد، الأرمن، الآشوريين، الكلدان، الجركس، والتركمان، وكلهم أبناء هذا الوطن. لا يمكن لأي ورقة أو توقيع أن يحولهم إلى “عرب” من خلال عملية إلغاء ثقافي وقسري.
نحن نرفض تحويل هويتنا إلى ورقة لا قيمة لها. لدينا حقوقنا الثقافية، لغتنا، وإرثنا التاريخي الذي نعتز به. نريد بناء سوريا جديدة قائمة على معالجة القضايا والتراكمات التاريخية، وليس على القفز عليها وتجاهلها. سوريا لا تحتاج إلى التكرار في مسار الأنظمة الاستبدادية التي تروج للحلول بالقوة أو السلاح، كما كان يفعل نظام البعث البائد. نحن بحاجة إلى دولة حقيقية، قائمة على المواطنة، حيث يعترف الجميع بحقوق الجميع دون استثناء.
لن نقبل بأقل من ما نستحق، خاصة بعد كل ما قدمناه من دماء شهدائنا الذين ارتقوا إلى العلياء. دماؤهم كانت في سبيل الحرية والعدالة، لن نقبل أن نكون مجرد تابعين أو لا شيء. نحن شركاء في بناء سوريا الجديدة، سوريا التي تحتفل بتنوعها وتحترم هوياتها.
رسالتنا واضحة: سوريا من دون تهميش أو إنكار أو إقصاء، سوريا لكل السوريين، سوريا للجميع.