التناقضات الفلسفية في مسار القضية الكوردية: بين الأوتوقراطية والتحول الديمقراطي – بوتان زيباري

في خضم التحولات الجيوسياسية التي تشهدها المنطقة، تبرز القضية الكوردية كواحدة من أكثر القضايا تعقيداً وإثارة للجدل. إنها قضية لا تُختزل في مجرد صراع عسكري أو سياسي، بل هي قضية تحمل في طياتها أبعاداً فلسفية وتاريخية واجتماعية عميقة. فمنذ أربعين عاماً، ومع ظهور تنظيم PKK، تحولت هذه القضية إلى حرب دامية أزهقت أرواح عشرات الآلاف، وأدت إلى تدمير مدن بأكملها، وتركت جرحاً غائراً في نسيج المجتمع التركي والكوردي على حد سواء. واليوم، ومع إعلان التنظيم عن نيته لحل نفسه، يبدو أننا نقف على أعتاب مرحلة جديدة، لكنها مرحلة مليئة بالتناقضات والشكوك.

إن الإعلان عن نهاية التنظيم يمكن أن يُعتبر خبراً إيجابياً بلا شك، خاصة إذا ما نظرنا إليه من زاوية إنهاء العنف وإيقاف نزيف الدماء. لكن هذا التفاؤل سرعان ما يتبدد عندما نعود إلى جذور المشكلة ونفكر في كيفية ظهور PKK في المقام الأول. لقد نشأ التنظيم كرد فعل على القمع والتمييز الذي عاناه الكورد لعقود، وكمطالبة بالحقوق الديمقراطية والثقافية. وبالتالي، فإن حل التنظيم دون معالجة الأسباب الجذرية التي أدت إلى ظهوره يبدو كمن يحاول إطفاء النار دون أن يلامس الوقود الذي يشعلها.

هنا تبرز إشكالية رئيسية: كيف يمكن لنظام أوتوقراطي، مثل نظام الرئيس أردوغان، أن يكون جزءاً من حل قضية تعتمد في جوهرها على الديمقراطية وحقوق الإنسان؟ إن التاريخ يعلمنا أن الأنظمة الأوتوقراطية نادراً ما تكون قادرة على إيجاد حلول دائمة لمشاكل تتطلب بالضرورة انفتاحاً سياسياً واحتراماً للحريات. بل على العكس، غالباً ما تستخدم هذه الأنظمة مثل هذه القضايا كأداة لتعزيز سلطتها وتوسيع نفوذها. وهذا بالضبط ما يثير الشكوك حول النوايا الحقيقية وراء أي عملية سلام أو حل سياسي يتم طرحه في ظل هذا النظام.

ثم هناك السؤال المحوري: ما الذي سيحصل عليه الكورد مقابل حل التنظيم؟ هل سيكون هناك تحسن ملموس في أوضاعهم السياسية والاجتماعية؟ أم أن الأمر سيقتصر على تحسين ظروف معيشة زعيم التنظيم، عبد الله أوجلان، دون أن يكون لذلك أي تأثير حقيقي على حياة الملايين من الكورد الذين ما زالوا يعانون من التمييز والقمع؟ إن الإجابة على هذا السؤال ستحدد مدى مصداقية أي عملية سلام يتم طرحها.

من الناحية العسكرية، يبدو أن PKK قد وصلت إلى نقطة حرجة. فالقوات التركية، بدعم من التكنولوجيا الحديثة والاستخبارات المتطورة، تمكنت من إلحاق خسائر فادحة بالتنظيم، مما أدى إلى تقليص نفوذه بشكل كبير. كما أن التغيرات الإقليمية، مثل تراجع نفوذ إيران وضعفها النسبي في العراق وسوريا، قد ساهمت في زيادة عزلة التنظيم. فإيران، التي كانت توفر دعماً لوجستياً وسياسياً لـ PKK، أصبحت الآن أقل قدرة على القيام بذلك بسبب الضغوط الدولية والأزمات الداخلية التي تواجهها.

في سوريا، تواجه القوات الكوردية، وخاصة وحدات حماية الشعب (YPG)، وضعاً معقداً. فبعد سنوات من التحالفات المتغيرة مع القوى الإقليمية والدولية، يجد الكورد السوريون أنفسهم الآن في موقف ضعيف. فتراجع الدعم الأمريكي، وضعف النظام السوري، وتراجع نفوذ إيران، كلها عوامل أدت إلى تقليص خياراتهم. وفي هذا السياق، تطرح دمشق عرضاً قد لا يكون سيئاً بالكامل: منح الكورد حقوقاً ثقافية وتمثيلاً سياسياً، لكن مع رفض فكرة الحكم الذاتي أو الانفصال. ومع ذلك، يبدو أن الكورد السوريين ما زالوا مترددين في قبول هذا العرض، ربما بسبب الأمل في أن تستمر الولايات المتحدة في دعمهم، أو بسبب الخوف من أن يؤدي أي اتفاق مع النظام السوري إلى فقدانهم لمكتسباتهم العسكرية والسياسية.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: ما هي البدائل الحقيقية المتاحة للكورد السوريين في هذه المرحلة؟ هل يمكنهم الاعتماد على دعم خارجي قد يتلاشى في أي لحظة؟ أم أن عليهم إعادة تقييم أوضاعهم والبحث عن حلول واقعية تأخذ في الاعتبار التغيرات الجذرية في ميزان القوى الإقليمي؟

في النهاية، يبقى مستقبل القضية الكوردية مرهوناً بقدرة الأطراف المعنية على تجاوز التناقضات والوصول إلى حلول حقيقية تعالج الأسباب الجذرية للمشكلة. فبدون ديمقراطية حقيقية واحترام لحقوق الإنسان، سيظل أي حل سياسي مجرد ترقيع مؤقت لن يعالج الجرح العميق الذي خلفته عقود من الصراع. وهنا تكمن المفارقة: ففي حين أن حل PKK قد يكون خطوة نحو السلام، فإنه لن يكون كافياً ما لم يصاحبه تحول جذري في النظام السياسي التركي والإقليمي نحو الديمقراطية والعدالة.

بوتان زيباري

السويد

One Comment on “التناقضات الفلسفية في مسار القضية الكوردية: بين الأوتوقراطية والتحول الديمقراطي – بوتان زيباري”

  1. ١: الكارثة أن التكنلوجيات والتقنيات العسكرية تطورت بسرعة البرق ، بينما عقيدة الحزب وآليات محاربته لتركيا والمل ا المزيف أردوغان قلت كما هى رغم سقوط الاتحاد السوفيتي وتراجع الأفكار الماركسية ؟

    ٢: صدقوني لو لبس نضاله قبل أربعين عام عباءة الإسلام لما كان هذا مصيره ومصير حزبه اليوم مجرد أرامل وأيتام ، بل كان كالجولاني سيدا في ديار بكر أو جزيرة عمر أو بوتان ، لأنها التجارة الوحيدة الرابحة في المنطقة بدليل الدول المحيطة بهم ، رغم أن العيب ليس في خلق وأخلاق الكورد الحقيقيين بل في دين وعقيدة من حولهم والتي لا تليق حقيقة وبشهادة الواقع والتاريخ لا بمجتمع ولا حتى ببشر ؟

    ٣: كارثة الكورد الأزلية أن الكثير منهم ملكيين حتى أكثر من الملك ، محبين وعاشقين الدين غزاتهم وقتلهم وجلاديهم والكارثة الأكبر يريدون أن ينصرهم الله ونبيه وليس خدا أو عيسى نوراني ، سلام ؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *