عندما دخلنا مرحلة الإبتدائية من المدرسة كان الأمل يحدونا أن نجلس في أول الصف وفي الرحلة الأولى حتى نكون أقرب للمعلم وأقرب للسبورة، وهي نزعة فطرية للتلميذ الذي يتوق إلى التعلم، لكنها لا تتأتى كيفما يرغب حيث لطول القامة وقصرها مدخلية، فكان الطوال موقعهم في الرحلات الأخيرة، وعندما كنا نسير في الإصطفاف الصباحي نحو الصف كانت الرغبة لكل واحد منا أن يكون في أول الطابور وأن يقود تلاميذ شعبته إلى الصف، على أن المقاييس تختلف من مدرسة لأخرى وإن كان الطابع العام أن يكون الوقوف من الأصغر قامة إلى الأطول، وفي يوم رفع العلم فإن كل طالب يتوق إلى أن يكون هو من يرفعه ويقرأ النشيد الوطني، وهكذا هو الأمر في كل جنبة من جنبات الحياة حيث يكون التطلع إلى اول الصفوف لنيل المراد.
وذات مرة وفي عام 2005م في طريق العودة من مطار بغداد الدولي إلى لندن عبر مطار دبي الدولي، وبعد أن أتممت التأكيد على حجز مقعد العودة ثلاث مرات وفي ثلاثة أوقات مختلفة لضمان العودة من غير منغصات بخاصة بعدما تناهي إلى سمعي حصول عدد من الحالات التي فقد فيها المسافر مقعده رغم حجزه المبكر والمتكرر، فوجئت عند حضوري مطار بغداد الدولي أن أقراني من المغادرين اصطفوا في طابور متلوٍ إلتواء الحيَّة قبل إقلاع الطائرة بنحو ثلاث ساعات حتى ولمّا يتم فتح باب استلام الأمتعة والحقائب، فقلت في نفسي ما دمت قد ضمنت الحجز فلماذا أظل واقفاً في الطابور وبالقطع واليقين أن مقاعد الطائرة محسوبة بعدد الحاجزين، إذن دعني أجلس حتى إذا قلَّ الواقفون أنهض وأقف مع من تبقى، وبعد ساعتين من الجلوس وقد قلَّ المغادرون تقدمت إلى الوقوف بانتظار أن يأتي دوري، وما هي إلا دقائق وإذا بأحد الموظفين المسؤولين عن صعود المسافرين أخذ بعدِّ المصطفِّين حتى إذا وصل الى المسافر العاشر نادى على البقية وبصوت مرتفع أن عودوا إلى منازلكم والرجوع غداً للإلتحاق بطائرة الصباح، وكنت أنا من البقية الباقية، فانعقد لساني مندهشاً فلم أعهد من قبل مثل هذه المفاجأة في أي مطار، فرأيت التملل على وجوه المسافرين والتعجب على وجوه البعض والتسليم على وجوه آخرين، وانتابني القلق لأن الطائرة التي سوف تقلني من مطار دبي الدولي إلى مطار هيثرو في لندن تنطلق في صباح غد، وإذا مضيت على ما طلب الموظف فسأخسر الحجز كليا ويطول بقائي، فتقدمت إليه مستغرباً ومتسائلاً عما يجري، فردَّ وهو منشغل مع أقرانه من الموظفين: إنَّ بعض المقاعد حجزت لعدد من المسؤولين على عجل ولا توجود مقاعد إضافية، فعدت عليه الكلام وأنا أكتم غضبي: وماذا عن الحجز الذي عملته لثلاث مرات حتى أضمن مقعدي؟، فرد بهدوء قاتل مبتسماً: الأمر ليس بيدي، فقلت له: ولكن علي أن أكون في الصباح الباكر في مطار دبي حتى أغادر إلى لندن، فردّ هذه المرة بشيء من المسؤولية: إذا صدقت بما تقول فسأسمح لك بصعود الطائرة ولكن عليك أولاً أن تظهر لي الحجز من دبى إلى لندن حتى أتأكد، فأظهرت بطاقة الحجز وتاريخها ووقتها فاقتنع، وإذا به وبصوت مرتفع ينادي على موظف آخر واقف عند مدخل الممر نحو الطائرة وطلب منه أن يرجع أي مسافر من الذين دخلوا للتو، ثم قال لي: أسرع إلى تسليم الأمتعة والصعود إلى الطائرة، فأنجزت التسليم وصعود الطائرة ورميت نفسي في مقعدي وأنا غير مصدق ما جرى وتساءلت في نفسي: هل أنا في مطار دولي أم في محطة للباصات العامة!، واقتنعت حينها أن الوقوف في الأمام في مثل هذه الحالات وفي مثل هذه الظروف التي مر بها العراق في عهد ما بعد سنة 2003م، هو الأسلم.
ومع هذه التجربة المرة التي مضت بسلام لكني في الوقت نفسه على قناعة تامة بأن التقدم على الناس في الطابور ليس بالأمر المطلق، فليس كل تقدم بحسن ومطلوب، فمن غير المنطق على سبيل المثال أن يتقدم المرء صفوف المصلين ويؤمهم في الصلاة دون رضاهم، ومن غير الصحيح أيضا أنْ يقف المصلِّ خلف أي إنسان ويأتم به تحت حجة أن صلاة الجماعة أفضل من الصلاة فرادى، لإن من شروط إمامة الصلاة العدالة ولو في مستوياتها الدنيا.
فالعدالة على سبيل المثال شرط في تحقق صحة صلاة الجماعة، كما أنَّ العدالة شرط في منجِّزية الكثير من الأمور التي هي على علاقة مباشرة بالمجتمع وصلاحه، وهذا ما يبحثه الفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي في الكتيب المعنون “شريعة العدالة” الصادر في بيروت عن بيت العلم للنابهين في 56 صفحة، والمتضمن لمائة وسبعة أحكام مع تمهيد ومقدمة للناشر وأخرى للمعلق الفقيد آية الله الشيخ حسن رضا الغديري الذي غادرنا في لندن إلى بارئه عصر الأربعاء 21 آب أغسطس 2024م وألحقها بسبع وعشرين تعليقة، وختم المؤلف الكتيب بقصيدة ينعى فيها الفقيد الغديري.
مائز العدل والحق
من الثابت في واقع الحياة أن العدل لا يعني التساوي على الدوام، فليس من العدل على سبيل المثال أن يساوي المعلم بين طلبته في إعطاء الدرجة الإمتحانية، ولكن من العدل أن يعطي لكل صاحب إجابة درجته، ومن الظلم أن يساوي في التقييم بين طالب نشيط وآخر كسول، فحقيق على المعلم أن يميز بين هذا وذاك لأنه الحق بعينه ولكن من العدل في الوقت نفسه أن يعرض علمه داخل الصف الدراسي على جميع الطلبة بالتساوي فهو العدل وهو الحق، من هنا فإن الفقيه الكرباسي وهو يمهد لشريعة العدل يرى أنَّ: (العدالة: مأخوذة من العدل، وهي الإستقامة وعدم الإنحراف عن الحق والمَيل إلى الباطل، والباطل في نظر الإسلام كل ما خالف إرادة الله المتمثلة بالأوامر والنواهي التي فرضها على عباده، ولاشك أنَّ ما افترضه الله عليهم هو ما يقره العقل السليم، فالحق حق، والباطل باطل، والعقل والدين لا ينفصلان في تحديد الحق والباطل).
ومن العدل تنبثق العدالة التي هي كما يفيدنا الشيخ الكرباسي: (وضع الشيء في موضعه الصحيح، وإعطاء كل ذي حقِّ حقه، ومن هنا جاء المصطلح المعروف “العدالة الإجتماعية”، وإذا لم تتحق العدالة قابلها الظلم).
ولا يحقق العدل والعدالة إلا العادل الذي وصفه المؤلف بأنه: (هو الذي يُحق الحقَّ ويرفض الباطل، وإحقاق الحق يتم بالأخذ بما أملى عليه الله تعالى، لأنه الحق ومنه يصدر الحق، وقد أمر عباده باتباع الحق ونبذ الباطل).
على أن للعدل والعدالة معانٍ مختلفة حسب الموضوع والمورد كما يفيدنا المعلق الفقيه الغديري: “والجامع للكل هو المعنى اللغوي المعروف، أي وضع الشيء في محلِّه، وإعطاء كل ذي حقٍّ حقَّه، ومنه التساوي والتطابق، فلكل من ذوي الإختصاص معنىً خاص للعدالة ومفهوم يختص به، فللعرفاء معنى يختلف عن اللغويين، ولأصحاب التجارة معنى غير ما للساسة معنى لها، وأما الشرع ففيه معنىً يرتبط بأوامر الله تعالى ونواهيه، إذ الإطاعة لما أمر به الله تعالى الإجتناب عن معصيته يسمى بالعدالة”.
ولكن إذا ذهبنا إلى أن العدل هو الحق والحق هو العدل، فما المائز بينهما؟
الفقيه الكرباسي يجيبنا قائلا: (الحق: هو الشيء الذي لابد وأن يتم وبدونه لا يُسدُّ الخلل، والعدل هو تحقيق هذا الحق، فإن لم يتحقق العدل لم تتحق العدالة .. والسعادة لا تتم إلا بأداء الحقوق، والحق لا يتم إلا بالعدالة، فمدار الحياة متوقف على تحقيق الحق وعلى تطبيق العدالة تطبيقاً لقانون الطبيعة التي أودعها الله في خلقه في أصول الوجود وفي استمرارية هذا الوجود).
وفي الأصل لا قيمة للحياة من غير تحقيق العدل ولا قيمة للإنسانية والوجود من غير تنجيز العدل بالحق، والفطرة الإنسانية مهما شابها من كدورات وران على قلبها من شوائب، فهي ميالة إلى العدل، فالظالم الباخس لحق الناس، إنساناً بسيطاً كان أو مسؤولاً متنفذاً، إذا ما شعر بأنَّ أحداً ما يبخسه في شيء ما ينتفض من داخله طلباً لتحقيق العدالة لنفسه واسترجاع الحق، وهذه الإنتفاضة على رغم جوره وظلمه إنما هي من نداءات الفطرة الداعية إلى تحقيق العدل وتنظيم قبان الميزان.
أحكام العدالة
يواصل الفقيه الكرباسي بعد تمهيد مستفيض عن العدل والحق بعرض أحكام العدالة في مائة وسبعة مسائل، وينبؤنا بأنّ: (العدل: هو الإستقامة في النهج العقائدي والشرعي والأخلاقي. وهو الوقوف بين الإفراط والتفريط. وهو العمل بما يرضي الله وترك ما يسخطه. وهو السير على الجادة الوسطى التي أمر الله تعالى بها).
ثم يستعرض المؤلف مفاهيم: العدل والعدالة والعادل والعدالة في الشريعة، والفاسق الذي يقابل العادل، ويطلعنا على أهم الموارد التي تشترط فيها العدالة بمستوياتها المختلفة وهي: الشهادة، إمامة صلاة الجماعة، تولي القضاء، الإجتهاد الفقهي، تولي بعض المناصب الخطيرة في البلاد، قبول ورفض الرواية إن كان من رواة الحديث، وما شابه، على أن معرفة العدل لا تكفي إن لم تشفعها بالعمل على تحقيقها في مفاصل الحياة كافة على مستوى الفرد والمجتمع، ولذا كما يفيدنا الكرباسي: (يجب على الحاكم تطبيق العدالة الإجتماعية. والعدالة في سن القوانين فرض، والعدالة في تطبيق القوانين واجب شرعي، والعدالة بين الزوجات واجب شرعي ومقتضى العدالة التساوي في التعامل معهن، وعدم تفضيل إحداهن على الأخرى في الحقوق الشرعية)، على أن الحب بين الزوج والزوجة هي مسألة نفسية روحية خاضعة للعلاقة المتبادلة بين الزوجين، وفي حال تعدد الزوجية فمن واجب الزوج العدل بين الزوجات فيما اقتضاه الشرع والعرف، ولكنه بالقطع لا يستطيع المساواة في الميل نحو هذه أو تلك من حيث العواطف إذا ما اجتمعا دون الأخرى، لأن العلاقة متبادلة والتحابب عملية تقابل في المشاعر بين الأنا والآخر وهي على درجات، وحيث تعدد الآخر، وحيث كان الآخر بتعدده غير متطابق نفسياً وروحيا وقع الإختلاف في المشاعر المتبادلة، وهو أمر فطري ونفسي وروحي لا غبار عليه.
ويستمر الفقيه الكرباسي في بيان العلاقة بين العدالة والعصمة، والفرق بين العصمة الكبرى والعصمة الصغرى، وأنواع واشتراطات العدالة لكل فرد من أفراد الأمة، والفارق بين العادل والفاسق، وشروط الشاهد، وموارد وجوب العدالة واستحبابها، وموارد إثبات عدالة إمام الصلاة والمجتهد والراوي والحاكم والولي والنائب والشاهد والقاضي والأب والزوج وأمثالهم.
ولما كان صاحب سلسلة الشريعة على علاقة عميقة مع المعلق الفقيد الغديري المولود في الباكستان سنة 1952م ولعقود عدة، فقد نعاه في خاتمة شريعة العدالة بقصيدة من بحر الهزج التام مشيراً إلى أنَّ المعلّق كان فقيهاً وقاضياً ومؤلفاً ومفسراً وأديباً وشاعراً وهو إلى جانب هذه الصفات التي قلَّ نظيرها في الكثير من أصحاب العمامة، كان يرتقي منبر الخطابة ناعياً سيد شباب أهل الجنة الإمام الحسين بن علي عليهما السلام، حيث جاء في مطلع القصيدة:
نعى الناعي عزيزاً غالياً عدلا
فقلت اغْرُب فما لي صاحب أغلى
هو الغالي هو القاضي هو القاري
على المولى حسين للعلى ذلاّ
وختم الناعي قصيدته بطلب الغفران للذي ذهب إلى بارئه قائلا:
فيا رب اغْفِرَنْ عبداً به التقوى
جرى في عِرْقِهِ حقاًّ وقد أبلى
وفي البيت الأخير إشارة إلى ما كان يُذيل به الفقيد الغديري كتاباته بكلمة “العبد” التي تسبق اسمه تواضعاً كما هو دأبه في الحياة اليومية وتعاطيه مع شرائح المجتمع كما عهدته وعرفته وتعاملت معه منذ ثلاثة عقود.
الرأي الآخر للدراسات- لندن