مع تزايد أعداد من يعبرون الحدود هرباً من أحداث الساحل السوري، تكررت مناشدات أهالي بلدات شمال لبنان المستضيفة النازحين المطالِبة بدعمهم لمواجهة أعباء موجة النزوح السورية الجديدة.
تتضارب المعطيات حول أعداد النازحين من الساحل السوري باتجاه شمال لبنان إثر الاشتباكات المسلحة الدامية التي تشهدها مناطق تغلب على تركيبتها السكانية الطائفة العلوية في اللاذقية وطرطوس وبانياس منذ أيام، لتبرز مخاوف اللبنانيين من موجة نزوح جديدة تضاعف أعداد اللاجئين السوريين.
ومنذ بدء الاقتتال والاشتباكات يوم الخميس الماضي في ريف اللاذقية، تصاعدت وتيرة النزوح الداخلي للعائلات من القرى ذات الغالبية العلوية خوفاً من أن تطاولهم أعمال القتل الطائفية، قبل أن تبدأ موجة نزوح باتجاه شمال لبنان، بعد توسع حدة الاشتباكات واتخاذها طابعاً طائفياً. وأكد رئيس اتحاد بلديات سهل عكار رئيس بلدية الحيصة محمد علي حسين، لـ”العربي الجديد”، أن “عدد النازحين من الساحل السوري إلى قرى سهل عكار يقارب عشرة آلاف شخص منذ بدء الاشتباكات، من بينهم علويون سوريون وعلويون لبنانيون مقيمون في الساحل السوري، والأعداد تتزايد. يتوزع النازحون على بلدات الحيصة وتلبيرة والمسعودية وتل حميرة وتل عباس الشرقي وحكر الضاهري والسماقية والريحانية وبربارة وعين الزيت والعريضة، وكذلك في جبل محسن”.
يضيف حسين: “النازحون واللاجئون الجدد موجودون في منازل وقاعات عامة، غير أن المساعدات تقتصر على المبادرات الفردية، في حين لم تباشر الجمعيات أو المنظمات الدولية تقديم أي مساعدة. نطالب الهيئة العليا للإغاثة ومنظمات الأمم المتحدة والجمعيات المعنية بأن تبادر إلى الاهتمام بالنازحين، خاصة أن أهالي القرى المذكورة يتولون تلبية حاجات النازحين، في حين أنهم يعانون من واقع معيشي صعب، حيث يعمل معظمهم في القطاع الزراعي، والزراعة واقعها معدوم”.
وكشف رئيس بلدية عين الزيت (شمالي لبنان) خضر إبراهيم، في اتصال مع “العربي الجديد”، أن “عدد الواصلين من الساحل السوري إلى البلدة بلغ 80 شخصاً حتى ليل الأحد، أغلبهم من الأطفال والنساء والمسنين، كما توافدت، صباح أمس الاثنين، أعداد إضافية. نواجه صعوبات كبيرة في تدبير أماكن الإيواء، ما دفعنا إلى توزيعهم على بيوت الأهالي، وفي مبنى كان شاغراً أُنشئ ليصبح مستوصفاً، لكنه ما زال ينتظر التجهيزات”.
ويضيف إبراهيم: “البلدة تنضوي ضمن إطار اتحاد بلديات الدريب الأوسط في محافظة عكار، والحاجات كبيرة ومتفاقمة، فالعائلات النازحة بحاجة إلى مراكز إيواء وفرش وبطانيات ومواد غذائية ورعاية صحية ووسائل تدفئة وغيرها الكثير، وأهالي البلدة يعانون ضائقة معيشية، ولا يستطيعون تلبية حاجات عائلاتهم، فغالبيتهم منخرطون في صفوف الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي والأمن العام، ويتقاضون كسائر العسكريين رواتب زهيدة منذ بدء الأزمة الاقتصادية في عام 2019، كما أن أراضي البلدة لا تصلح للزراعة. أحد العاملين في مكتب محافظ عكار تواصل معي وطلب إرسال أسماء العائلات النازحة، لكننا نناشد الدولة والمعنيين النظر إلى أحوال النازحين الجدد، وتقديم المساعدات الطارئة لهم”.
أهالي قرى لبنانية يلبون حاجة اللاجئين الجدد رغم واقعهم الصعب
ويؤكد رئيس بلدية عين الزيت عدم خشيته من تأزم الأمور بين النازحين الجدد والقدامى، أو بين النازحين الجدد من الطائفة العلوية وسكان القرى من الطائفة السنية، خاصة أن بعض القرى المجاورة يضم العديد من مخيمات اللاجئين السوريين. اللاجئون يعملون منذ سنوات في بلدتنا في أعمال البناء والباطون والنجارة والخشب، ونحن إخوة وأهل. لكن من لا يَحسب يُغلب، لذا نحرص على حفظ الأمن والاستقرار، وردع الأبواق الفردية التي تحرّض ضد استقبال العلويين السوريين”.
ويروي أحد النازحين من مدينة طرطوس، فضّل عدم الكشف عن هويته، لـ”العربي الجديد”، أنه تمكن من الفرار “بمعجزة إلهية” برفقة زوجته وأطفاله الثلاثة، ويقول: “نجوتُ من القتل في أول أيام الاشتباكات، وفي اليوم الثاني، قررت مع زوجتي حمل أطفالنا، وعمر أكبرهم خمس سنوات والأصغر ثمانية أشهر، وهربنا سيراً على الأقدام من دون أن نأخذ أياً من مقتنياتنا. كانت رحلة مرهقة، خاصة أنني لا أمتلك سيارة، وتنقلنا من بلدة إلى أخرى حتى تمكنا من الاستعانة بوسيلة نقل أوصلتنا إلى الحدود اللبنانية. عند الحدود، لم تكن الأمور أيضاً سهلة، بل محفوفة بالمخاطر، وبعد السؤال عن وجهة آمنة، أُرشدت نحو بلدة عين الزيت، وقد وصلنا عند منتصف الليل، ونقيم في منزل أحد الإخوة اللبنانيين، ولم تلتفت إلينا أي جمعية أو جهة رسمية”.
كان النازح السوري يعمل نجار باطون في طرطوس، ويسرد حجم الرعب الذي عاشه أطفاله قائلاً: “نجونا من موت محتم، ولا زلت أشعر أنني في حلم، ولا أصدق أننا على قيد الحياة. شاهدت جرائم عدة، إذ كانوا يمارسون القتل في مختلف أنحاء البلدة بشكل عشوائي، ولا تعنيهم النساء أو الأطفال أو كبار السن. ندعو أن تهدأ الأحوال مجدداً، وأن يعمّ الأمن والاستقرار، وتتوقف المجازر بحق الأبرياء، فقد عشنا جرائم انتقامية وتطهيراً عرقياً للطائفة العلوية. غالبية أقربائي تشتتوا، فمنهم من لجأ إلى لبنان، ومنهم من لا يزال عالقاً في الساحل السوري، وهم يعانون أوضاعاً سيئة وخطراً داهماً”.
حركة لجوء السوريين باتجاه لبنان محدودة والأرقام المتداولة مبالغ فيها
في المقابل، يشدد مختار بلدة السنديانة في عكار محمد حمزة على أن “حركة النزوح باتجاه لبنان ما زالت محدودة، ولا صحة للأرقام المتداولة المبالغ فيها. لجأ علويون من الساحل السوري إلى قرى في عكار، وهي قرى إما تضم لبنانيين من الطائفة العلوية مثل عين الزيت والدغلة، أو قرى مختلطة تضم علويين وطوائف أخرى”. ويضيف لـ”العربي الجديد”: “يجب التحلي بالمصداقية والدقة، وعدم تشويه الحقائق أو إثارة الرعب في النفوس، فالأجهزة الأمنية والعسكرية والمخاتير والأعيان يعملون على ضبط الأمن والتصدي للتجاوزات”.
ويطمئن حمزة إلى أنه “لم تحصل اشتباكات بين المواطنين واللاجئين الجدد، والوضع تحت السيطرة، ولا خوف من احتكاك طائفي أم مذهبي، أو من انتقال الصراع من سورية إلى لبنان، فالجميع يدرك مخاطر هذا، ويتحسس من مأساة النزوح، ويحرص على مساندة كل لاجئ بغض النظر عن طائفته”.
من بلدة الحيصة، يؤكد الشيخ علي محمد، من الطائفة العلوية، أن الحديث عن موجة نزوح كثيفة مسألة غير دقيقة، ويقول لـ”العربي الجديد”: “منذ سقوط نظام الأسد، لجأ إلى البلدة نحو خمسين سوريّاً من الطائفة العلوية، وتوزعوا على منازل أقربائهم، ما يعني أن الأرقام المتداولة غير صحيحة، وقد سارعنا إلى تقديم المساعدات، وعدد من النازحين الجدد قصد محافظة بعلبك – الهرمل (البقاع الشمالي) للاحتماء لدى الإخوة من الطائفة الشيعية”.
ويقول عضو هيئة متابعة شؤون اللاجئين السوريين في عكار أحمد المحيميد، لـ”العربي الجديد”، إن “هناك حركة نزوح من الساحل السوري باتجاه منطقة جبل محسن في طرابلس، وكذلك قرى في عكار تضم علويين لبنانيين مثل الحيصة وبلانة الحيصة والمسعودية.
نأسف لارتكاب فلول النظام السوري السابق مجازر بحق الأبرياء، ومواصلتهم عمليات التخريب للعبث بأمن سورية واستقرارها، كما نستنكر محاولات تهجير أهالي الساحل السوري، فقد سبق أن ذقنا مرارة النزوح وقسوة التهجير، وما زالت معاناتنا قائمة. لذا نحن جاهزون لمساعدة كل لاجئ وحمايته”.
ويلفت مدير قسم البحوث والدراسات في “تيار المستقبل السوري” جمعة لهيب إلى أن “النزوح باتجاه لبنان يتنوع بين عائلات علوية خافت من حالات انتقام، وعناصر علويين شاركوا في الجرائم، أو ضباط وقادة بالجيش السوري السابق، أو قادة مليشيات، أو مجرمي حرب”.
ويقول لـ”العربي الجديد” إنه “من المعروف أن بعض هؤلاء قصدوا مناطق لبنانية محسوبة على حزب الله، أو على حزب البعث العربي الاشتراكي، لكن الخسائر مؤلمة في الساحل السوري، والانتهاكات جسيمة، ما يعبّر عن حقد طائفي قديم، ونشهد اليوم ما يمكن وصفه بـ(ثمانينيات العلويين)، وهو ما يذكرنا بـ(ثمانينيات السنّة)، وهذا ينذر بأننا سندفع الثمن جميعاً. شخصياً، وصلت إلى لبنان لاجئاً في عام 2011، وأناشد جميع السوريين لملمة الجراح والوقوف صفاً واحداً أمام الفتنة الطائفية”. وفي اتصال لـ”العربي الجديد”، يتحدث مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان رامي عبد الرحمن عن “نزوح عشرات آلاف السوريين من محافظة طرطوس باتجاه الحدود اللبنانية، وبعضهم لم تشهد قراه أية مجازر، لكن لا يمكن تأكيد دخول كل هذا العدد إلى لبنان”.
المصدر: العربي الجديد