تُعَدُّ “البروكرستيَّة” واحدة من أخطر أمراض العقل، وهي ليست مجرد أسطورة إغريقية قديمة، بل نهج سياسي قمعي تتبناه الأنظمة الشمولية، خاصة في شرقنا الأوسطي، وأداة خبيثة لتطويع الشعوب وفق قوالب جاهزة.
ابتُليت شعوبنا بأنظمة تستلهم منطقها ومفاهيمها من وباء ذلك السفاح الذي كان يمدّد ضحاياه أو يبتر أطرافهم حتى تتناسب مع سريره الحديدي، لكن الفرق أن أنظمتنا لا تستخدم الحديد، بل تُعيد تشكيل العقول، وتهندس الإدراك، فتخلق شعوبًا مشوهة نفسيًا وفكريًا، لا ترى إلا ما يُسمح لها برؤيته، ولا تنطق إلا بما يُؤذن لها بقوله.
النظام السوري البائد كان نموذجًا حيًا للبروكرستية السياسية والثقافية، حيث لم يكن المطلوب من الشعب أن يكون متنوعًا أو مفكرًا، بل مجرد قطيع مشذَّب وفق معايير السلطة، كان القمع أداة التشذيب، والسجن والموت عقوبة من يتجاوز حدود القالب المرسوم.
أما النظام الحالي، الذي يزعم أنه جاء ليصحح المسار، فإنه لا يفعل سوى إعادة إنتاج الاستبداد في ثوب مختلف، أو أن هناك قوى تدفعه عمدًا نحو المستنقع ذاته، مستغلةً الشرائح التكفيرية المنضوية تحت هيئة تحرير الشام أو الموالية لها، لنشر الجريمة الممنهجة تحت ذرائع متعددة: مرة باسم الثأر من فلول النظام، ومرة أخرى تحت غطاء الردع الديني.
النظام يتغاضى، إما لعجزه عن الردع، أو لأنه يجد في هذا التطرف أداة لتثبيت هيمنته، فيرتدي قناعًا مختلفًا مع كل حدث، ويطلق تصريحات متناقضة، تتنافر مع أفعاله على الأرض. وهكذا، يحل الاستبداد الديني محل الاستبداد القومي، ويبقى جوهر الطغيان واحدًا: فرض نمط حياة أحادي، قولبة العقول، وإلغاء كل ما يتعارض مع مشروع السلطة.
وفي هذا المشهد المعقد، تبقى الآمال معلقة على الاتفاقية التي تمت بين قوات سوريا الديمقراطية وأحد أطراف الحراك الكوردي، لعلها تكون خطوة نحو كبح التطرف، وتصحيح المسار الطائفي، قبل أن يتحول إلى قدر محتوم يكرّس دورة جديدة من الاستبداد، بوجه مختلف، لكن بروح الهيمنة ذاتها.
في ظل الأنظمة الشمولية، سواء النظام السوري البائد أو النظام الحالي إذا انحنى أمام التطرف الإسلامي، لا تُعامل الشعوب ككيانات حية ذات إرادة، بل تُختزل إلى مواد خام تُصاغ قسرًا وفق مقاييس السلطة، يتم تفريغ الهوية من جوهرها، واستبدالها بقوالب جاهزة تخدم منظومة الاستبداد، حيث يصبح الإنسان مجرد وسيلة، لا غاية، في لعبة الهيمنة والتوظيف الأيديولوجي.
يُبتر الفكر الحر إن تجاوز المسموح، تُقطع الألسنة إن نطقت بما لا يجب، تُخاط الأفواه إن حاولت الصراخ، وتُفقَأ العيون إن حاولت رؤية ما هو أبعد من الدعاية الرسمية، حتى الإدراك يُشوَّه؛ فالبصر لا يعود بصرًا، بل يتحول إلى أداة انتقائية، لا يرى إلا ما يُراد له أن يراه، وكل من يخرج عن هذا الإدراك الجمعي المشوه يُوسَم بالخيانة، بالكفر، بالخروج عن “المصلحة الوطنية” أو “التوجه الديني الصحيح”.
إن البروكرستية ليست مجرد أداة قمع، بل هي مشروع منهجي لإلغاء التنوع وإنتاج أمة واحدة، بنسخة مكررة، لا تفكر ولا تسأل، بل فقط تطيع، وهذه هي أخطر أشكال الديكتاتوريات، حيث لا يكتفي المستبد بالسيطرة على الأرض، بل يسيطر على الأذهان، فيصبح الشعب نفسه حارسًا لسجنه، يحرس قالبه الحديدي، ويقطع أوصال من يحاول التمرد عليه.
إن أنظمة الشرق الأوسط ليست سوى نماذج محدثة لبروكرست، حيث يتم تشذيب الشعوب وفق مقاييس السلطة، لا وفق معايير العدالة أو الحرية، وسوريا، سواء في ظل النظام البائد أو في ظل المشاريع الدينية الاستبدادية الجديدة، لم تفلت من هذا المصير، بل لا تزال تُبتر أطرافها الفكرية، وتُمَدَّد مكونات سوريا على سرير قمعي، حيث يُعاد تشكيلها قسرًا وفق مقاييس الاستبداد. وما جرى مؤخرًا في منطقة الساحل من جرائم مروعة بحق المدنيين العزل من المكون العلوي، بأبشع الأساليب الإجرامية، ليس إلا مثالًا حيًا على هذا النهج.
ورغم أن فلول النظام المجرم البائد لعبت دورًا في إشعال هذه الفوضى، إلا أن ما يحدث اليوم، كردة فعل، وثأر مبطن، لا يختلف في جوهره عن سرير بروكرست، إلا في الأداة.
فالمبدأ يظل واحدًا، أن تكون كما يريد الحاكم، أو أن تُجتث، أن تنكمش حتى تطابق قالبه، أو أن تُمدد قسرًا حتى تتلاشى هويتك.
وهكذا، لا يُترك للشعوب خيار سوى الخضوع أو الإلغاء، في معادلة يتغير منفذوها، لكن يبقى الاستبداد فيها هو القانون الوحيد الذي لا يتغير.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
9/3/2025م