بدء الدستور بتسمية “الجمهورية العربية السورية” ليس مجرد تعبير شكلي، بل تكريس لمنهجية إقصائية تُرسّخ منطق الأغلبية على حساب الأقلية، وتضع هوية الدولة في إطار قومي أحادي، يستبعد أي مكون لا يتماشى مع المعيار العربي المهيمن.
هذا النهج لا يعكس فقط رؤية سلطوية، بل يؤكد أن الصياغة الدستورية ليست محاولة لإنصاف جميع السوريين، بل إعادة إنتاج للهياكل السياسية التي تهمّش حقوق غير العرب المسلمين، ولا تمنح الاعتراف إلا بما يتوافق مع مصالح الفئة المسيطرة.
إن متن الدستور قائم على رؤية فوقية، تعيد إنتاج الدولة وفق هوية عربية سنّية بلون واحد، بحيث يصبح أي اختلاف عن هذه الصيغة مجرد تفصيل هامشي لا يُؤخذ بعين الاعتبار. من اختيار هوية الرئيس إلى أسس التشريع، يتم تكريس هذا الانحياز، مما يجعل الدستور الجديد يتجاوز كونه مجرد صراع سياسي إلى مشروع إعادة هندسة اجتماعية ممنهجة لسوريا.
هذه المنهجية الاستبدادية تعكس مفهوم “البروكرستية”، حيث يتم إجبار المكونات على التكيف مع صورة النظام القادم، إما من خلال البتر (الإقصاء، القمع، تجريد المكونات الأخرى من حقوقها)، أو التمديد (فرض الهوية الحاكمة على الجميع، وجعلهم أدوات في خدمة السلطة الجديدة). الفارق الجوهري هذه المرة، أن القمع لا يُمارس بشكل منعزل، بل يُدار عبر تحالفات إقليمية ودولية، تستخدم أدوات محلية لتنفيذ هندسة جديدة لسوريا، وفق المعايير التي تخدم موازين القوى وليس إرادة الشعب السوري بكل مكوناته.
بهذا الشكل، لا يصبح الدستور وثيقة تعاقدية بين الدولة والمواطن، بل أداة تُستخدم لشرعنة الإقصاء الممنهج، وترسيخ الطغيان بآليات تبدو قانونية في ظاهرها، لكنها في جوهرها استمرار للنهج ذاته الذي جعل سوريا ساحة لصراعات لا تنتهي.
كما كان بروكرست في أسطورته يجبر ضحاياه على التناسب مع سره الحديدي القاتل، فإن ما حدث بالأمس بحق المكون العلوي، وما يجري اليوم عبر الدستور بحق جميع مكونات سوريا، ليس سوى إعادة تمثيل لهذا النموذج الإجرامي. يتم فرض معايير دينية متطرفة، حيث يُصنّف العلويون كـ “نُصيرية مرتدين”، ويُستهدفون بالإبادة لا لشيء سوى لأن وجودهم يهدد انسجام النموذج الطائفي الذي يراد إعادة صياغته لسوريا الجديدة. نحن هنا لا نتحدث عن رموز النظام المجرم البائد، الذين يجب أن يُحاسبوا على ما اقترفوه بحق شعوب سوريا طوال أكثر من نصف قرن، لكننا أمام مشروع تطهير طائفي شامل لا يفرّق بين الجلاد والضحية، ويحوّل العلويين إلى هدف جماعي بناءً على الهوية الدينية، وليس بناءً على مسؤولية فردية أو قانونية.
لكن هذا القالب الطائفي الضيق لا يكتفي باستهداف العلويين فحسب، بل يبتلع كل من يُشتبه بانتمائه إلى “فلول النظام”، فيتم تصنيف العائلات بأكملها وفق منطق انتقامي بحت. كل من كان له قريب في جيش النظام السابق، سواء كان جنديًا بسيطًا أو ضابطًا، يصبح في دائرة الإقصاء القسري، ليس بناءً على أفعاله، بل فقط لأن وجوده يُشوّه “الصورة النقية” التي يريد المتطرفون رسمها لسوريا الجديدة. هنا، لا يتم النظر إلى الأفراد كذوات مستقلة، بل يتم التعامل معهم كأطراف يجب بترها أو إعادة تشكيلها لتتناسب مع نموذج السلطة الجديدة.
وكما يخضع العلويون لمقصلة “التطهير الديني”، فإن الشعب الكوردي يُلقى في فخ “التطهير القومي”، حيث يتم إنكار وجوده كمكون أساسي في سوريا، رغم كونه ثاني أكبر مكون في البلاد. لا مكان في “سرير بروكرست الشرق الأوسطي” لمن يخرج عن الإطار العروبي الإسلامي المفروض بالقوة، وتحت ذريعة “محاربة الانفصال”، تُبرر آلة التحريض التركية استهداف الكورد، عبر أدواتها من المرتزقة ومخلفات البعث، الذين تحوّلوا إلى أدوات طيّعة في يد مشروع التوسع التركي، تمامًا كما كانوا بيادق في يد النظام البعثي البائد.
بهذه السياسة، لا يتم إعادة بناء سوريا، بل يتم تفصيلها على مقاس سلطة استبدادية جديدة، تكرر أخطاء الماضي تحت شعارات جديدة، وتستخدم ذات الأدوات القمعية، ولكن بوجوه مختلفة.
رغم اختلاف الشعارات، بين تكفير العلويين باسم الدين، واضطهاد الكورد باسم القومية، وربما غدًا شيطنة الدروز بتهمتي التكفير والانفصال، تبقى الفكرة واحدة: إعادة قولبة سوريا لتتناسب مع رؤية استبدادية جديدة، حيث يتم استئصال أي مكون لا ينسجم مع معايير القوى المهيمنة. في النهاية، لا تُستهدف الأفراد فقط، بل التعددية ذاتها، بل الفكرة القائلة بأن سوريا يمكن أن تكون وطنًا مشتركًا، لا سريرًا حديديًا يموت فوقه كل من لا يتناسب مع مقاس السلطة الجديدة.
تركيا، بشكل أو بآخر، تقف خلف هذه الأساليب، فهي الداعم الرئيسي لهيئة تحرير الشام، وتدفع بها لتكون الحكومة القادمة وفق مقاييسها، بحيث تُحكم دمشق بالطريقة التي تريدها أنقرة. ثمن هذا المشروع؟ طرد الميليشيات الإيرانية وأدواتها من سوريا، بما يتناسب مع التحولات الدولية، لكن أنقرة تتجاهل أن لعبتها هذه تفتح كل الأبواب ضدها أيضًا، إذ تقبل بلعب هذا الدور على أمل تحقيق مكاسب إقليمية، لكنها قد تجد نفسها ضحية لنفس اللعبة.
لقد دخلت تركيا هذا الصراع بأمل إضعاف قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، أو على الأقل إقناع واشنطن بالتغاضي عن استهدافها للإدارة الذاتية، لكنها ستُدرك قريبًا أن اللعبة أكبر من أدواتها، وأن القوى الكبرى لن تسمح لها بإعادة صياغة سوريا وفق مقياسها العثماني. وكما حدث مع إيران، سيتم إخراج تركيا تدريجيًا من المشهد، ليس لأنها قوة ضعيفة، بل لأن استمرار وجودها سيصبح أكثر عبئًا من كونه مكسبًا استراتيجيًا.
سوريا اليوم ليست أمام خيار بين “نظام مركزي – الجمهورية العربية السورية” أو “نظام فيدرالي – الجمهورية السورية”، بل أمام خيار بين:
- “فيدرالية تحفظ بقاء الدولة”، تضمن العدالة والتوازن وتحمي التعددية، أو
- “تقسيم يفرضه الواقع”، حيث تتحول البلاد إلى مناطق نفوذ متصارعة، تديرها ميليشيات تتنافس في الاستبداد باسم القومية تارة، وباسم الدين تارة أخرى.
ما يحدث اليوم ليس مجرد تحولات سياسية، بل هو إعادة صهرٍ قسري للشعب السوري داخل قالب بروكرستي جديد، أشد وحشية من كل ما سبقه. والسؤال الحقيقي الذي يجب أن يُطرح ليس فقط “ما شكل الحكم القادم لسوريا؟”، بل أيضًا:
كم من الأجساد والعقول سيتم بترها قبل أن تتوقف هذه البروكرستية الدموية؟”
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
9/3/2025م