تشير التقديرات إلى أن أكثر من تريليون دولار أميركي سرقها أولئك الذين يحكمون العراق منذ الإطاحة بنظام صدام. وهناك آلاف الأشخاص الفاسدين الذين أصبحوا أثرياء ومليونيرات ومليارديرات خلال هذه الفترة.
في ضوء الأزمة الاقتصادية والسياسية التي خلفتها الفساد المتفشي والنهج الحكومي القائم منذ سقوط النظام البعثي، برز مشروع استعادة الأموال المسروقة كخطوة حيوية لإصلاح الدولة وترميم ثقة المواطن بالمؤسسات الحكومية. وتُعد هذه المسألة من أبرز التحديات التي تواجه العراق، إذ أن المال العام في هذه الحالة لم يعد محصورًا ضمن حدود الدولة، بل تحول إلى مورد خارجي لصالح مصالح ضيقة، مما يتطلب استراتيجيات متكاملة لإعادة الأموال المنهوبة.
فيما يلي تفاصيل موسعة لأبرز السبل والاستراتيجيات التي يمكن اعتمادها لاستعادة هذه الثروات وتحقيق العدالة الاقتصادية والاجتماعية:
- التعاون الدولي
إن التعاون مع المجتمع الدولي يُعد الركيزة الأساسية في مساعينا لاستعادة الأموال المنهوبة، إذ أن الأموال غالبًا ما تُنقل إلى حسابات وبنوك خارج حدود العراق.
- توسيع الشراكات: بجانب التعاون مع البلدان التي تم تحويل الأموال المسروقة اليها مثل مصر ولبنان والإمارات العربية المتحدة، ينبغي فتح قنوات مع دول أوروبية وأمريكية تمتلك نظم مصرفية متطورة وتطبيقات صارمة لمكافحة غسل الأموال.
- آليات التنسيق: إنشاء لجان مشتركة متخصصة تضم خبراء قانونيين ومصرفيين للتحقيق في التحويلات المالية، مما يضمن تتبع الأموال وتحديد الجهات المتورطة في عمليات التحويل غير القانونية.
- التجميد والمصادرة: العمل مع الهيئات القانونية الدولية لتجميد الحسابات المصرفية التي تشتبه في تورطها بعمليات غسل الأموال، وإصدار أوامر مصادرة للأصول المرتبطة بجرائم الفساد.
- الاتفاقيات الدولية: الاستفادة من المعاهدات والاتفاقيات التي تتيح التعاون القضائي بين الدول لتبادل المعلومات وإجراء التحقيقات المشتركة، مما يسهم في توسيع نطاق الإجراءات القانونية ضد الفاسدين.
- التدابير القانونية: العمل مع الهيئات القانونية الدولية لتجميد وإعادة الأصول المسروقة. يشمل ذلك الاستفادة من الاتفاقات والمعاهدات الدولية القائمة.
- تقوية المؤسسات المحلية
إن بناء مؤسسات محلية قوية هو عامل محوري في مواجهة الفساد، حيث يجب أن تكون هذه الهيئات مجهزة بالأدوات والسلطات اللازمة للتحقيق ومقاضاة المسؤولين عن سرقة المال العام.
- تمويل وتطوير الكوادر: توفير الدعم المالي والتقني لهيئة النزاهة العراقية والجهات المعنية الأخرى، بما في ذلك التدريب على أحدث التقنيات في مجال المحاسبة والتحقيق المالي.
- الاستقلالية والشفافية: ضمان استقلالية هذه الهيئات عن الضغوط السياسية والاقتصادية، مع اعتماد نظم مراقبة داخلية وخارجية لتعزيز مصداقيتها أمام الجمهور.
- تحديث القوانين: مراجعة وتحديث القوانين المتعلقة بمكافحة الفساد لتكون أكثر فعالية في التعامل مع الجرائم المالية المعقدة، وضمان تغطية جميع الثغرات القانونية.
- مشروع القانون العراقي: تطبيق مشروع القانون الذي اقترحه الرئيس العراقي برهم صالح والذي يتضمن آليات متطورة لرصد الفساد والحد من إمكانيات تحويل الأموال إلى خارج الدولة، مع تفعيل دور القضاء في تطبيق هذه القوانين بكل حزم.
- الشفافية والمساءلة
تحقيق الشفافية والمساءلة يعد من الركائز الأساسية لاستعادة الثقة العامة، ويشمل ذلك توفير المعلومات الدقيقة عن عمليات الاسترداد ومحاسبة كل من يثبت تورطه في الفساد.
- تقارير دورية: إصدار تقارير شفافة ومفصلة حول تقدم عمليات استعادة الأموال وتفصيل الجهات المستفيدة من الأموال المنهوبة، مما يتيح للجمهور متابعة المستجدات والتأكد من نزاهة الإجراءات.
- التواصل مع المجتمع الدولي: تبادل المعلومات مع المؤسسات الدولية المختصة وتقديم بيانات محدثة تُسهم في رفع مستوى التعاون الدولي ومراقبة تنفيذ الإجراءات.
- أنظمة المراقبة: تطوير آليات داخلية وخارجية لمراقبة عمل المسؤولين والهيئات الحكومية، مع ضمان أن كل شخص يُثبت تورطه في الفساد يواجه العدالة القانونية
- الملاحقات الجنائية: إنشاء وحدات متخصصة للملاحقة القضائية تهدف إلى توجيه الاتهامات ضد المسؤولين، وتفعيل نظام لمصادرة الأصول المرتبطة بأعمال الفساد بما يعيد الأموال إلى خزينة الدولة.
- الدعم الدولي
الدعم الدولي يُعزز من كفاءة جهود الاسترداد، إذ يمكن للدعم التقني والمالي أن يساهم بشكل كبير في تحسين البنية التحتية القانونية والمصرفية لمكافحة الفساد.
- المساعدة التقنية والمالية: التعاون مع منظمات مثل الأمم المتحدة والبنك الدولي لتوفير الخبرات الفنية والموارد المالية اللازمة لدعم عمليات التحقيق واستعادة الأموال.
- تبادل الخبرات: تنظيم ورش عمل ومؤتمرات دولية لتبادل التجارب الناجحة في مكافحة الفساد، مما يساعد على تطبيق أفضل الممارسات العالمية في السياق العراقي.
- دروس مستفادة: دراسة تجارب دول مثل نيجيريا ورواندا التي نجحت في استعادة الأموال المسروقة وتطبيق نظم مكافحة الفساد، والاستفادة من نماذج الرقابة والشفافية التي أثبتت نجاحها.
- تطبيق التكنولوجيا الحديثة: استخدام التقنيات الحديثة في تتبع المعاملات المالية، مثل الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة، لتحديد الأنماط المشبوهة وتحليل تدفقات الأموال بشكل فعال.
- مشاركة المنظمات الدولية: السعي للحصول على دعم من منظمات مثل الأمم المتحدة والبنك الدولي لتوفير المساعدة التقنية والدعم المالي لجهود الاسترداد.
- التوعية والمشاركة العامة
لا يمكن تحقيق إصلاح شامل دون إشراك المجتمع المدني في جهود مكافحة الفساد، إذ يمثل الوعي الجماهيري خطوة أساسية لتحريك آليات المحاسبة والمساءلة.
- برامج إعلامية وتثقيفية: إطلاق حملات توعوية على نطاق واسع عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي لتسليط الضوء على تأثير الفساد السلبي على الاقتصاد والمجتمع، وإبراز أهمية استعادة الأموال المسروقة.
- ندوات وحوارات مجتمعية: تنظيم فعاليات عامة تضم خبراء في الشفافية ومكافحة الفساد، مما يُتيح للمواطنين الفرصة لفهم التحديات والمشاركة في اقتراح الحلول.
- إنشاء قنوات آمنة: تطوير منصات إلكترونية وسرية تتيح للمواطنين الإبلاغ عن المخالفات دون خوف من الانتقام، مع توفير الحماية القانونية للبلاغين.
- المشاركة المجتمعية: تحفيز الجمعيات المدنية والمنظمات غير الحكومية للعب دور فعال في رصد ومراقبة أنشطة الفساد، مما يُكسب المجتمع قوة دافعة نحو الإصلاح.
- استراتيجيات طويلة الأجل
تتطلب مكافحة الفساد واستعادة الأموال المسروقة رؤية استراتيجية تمتد لعقود، تضمن تحقيق تغيير شامل في البنى الاقتصادية والإدارية للدولة.
- إعادة هيكلة الاقتصاد: تطبيق إصلاحات جذرية تشمل تحسين نظام الضرائب وتعزيز الشفافية في إدارة الموارد الطبيعية، مما يقلل من فرص استغلال الثروات الوطنية بطرق غير شرعية.
- تحسين بيئة الأعمال: تطوير بيئة اقتصادية شفافة وجاذبة للاستثمار تضمن تطبيق المعايير الدولية للشفافية والنزاهة في كافة القطاعات الاقتصادية.
- تطوير الكوادر البشرية: الاستثمار في التدريب والتأهيل المهني لوكالات إنفاذ القانون والقضاء، بما يرفع من كفاءتها وقدرتها على مواجهة الجرائم المالية والفساد.
- تحديث البنية التحتية: توفير أحدث التقنيات والمعدات للمؤسسات الحكومية، مع تحديث الأنظمة الإدارية والمحاسبية لتكون أكثر دقة وفعالية في تتبع الأموال ومعالجة المخالفات المالية.
- الإصلاحات الاقتصادية: تنفيذ إصلاحات اقتصادية لتقليل فرص الفساد وتحسين البيئة الاقتصادية العامة.
تحديات التنفيذ وآفاق المستقبل
على الرغم من وضوح الخطط الاستراتيجية، فإن تنفيذ هذه الإجراءات يواجه تحديات جمة تتعلق بالمقاومة السياسية والضغوط الاقتصادية. ومن أهم هذه التحديات:
التدخل السياسي: قد تحاول بعض الجهات المعنية التأثير على سير العدالة لحماية مصالحها الخاصة، مما يتطلب رقابة دولية ومحلية صارمة.
الضغط الاقتصادي: قد تؤدي الضغوط الاقتصادية إلى تأجيل الإصلاحات أو تراجع الالتزام بتنفيذ الإجراءات الصارمة، لذا يجب العمل على تحفيز الاستثمارات وتشجيع الإصلاحات الهيكلية.
النسيج الاجتماعي: يحتاج المجتمع إلى ثقة متجددة في المؤسسات الحكومية، مما يستدعي جهودًا مكثفة لإعادة بناء العلاقة بين الدولة والمواطنين عبر سياسات شفافة وتشاركية.
مع كل هذه التحديات، يظل المشروع رؤية مستقبلية واعدة لتحقيق العدالة واستعادة الثروات الوطنية، شريطة أن تُترجم الخطط النظرية إلى إجراءات عملية تُنفذ بتنسيق دولي ومحلي متكامل. إن استعادة الأموال المسروقة ليست مجرد عملية مالية، بل هي خطوة إصلاحية شاملة تهدف إلى ترميم الثقة في النظام الحكومي وإرساء مبادئ العدالة والمساءلة في المجتمع.
بذلك يُشكل مشروع استعادة الأموال المسروقة نتيجة تطبيق مبدأ (المال العام هو مال سائب) رؤية شاملة ومتعددة الأبعاد تجمع بين التعاون الدولي، وتقوية المؤسسات المحلية، والشفافية، والدعم الخارجي، والتوعية العامة، والإصلاحات الاقتصادية طويلة الأجل. إن تحقيق هذه الرؤية يتطلب إرادة سياسية صلبة، وتعاوناً مستداماً بين كافة الأطراف المعنية، واستعداداً لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية لتحقيق تحول جذري يعود بالنفع على الوطن بأسره.
يُعتبر استعادة الأموال المسروقة مهمة طويلة الأمد تتطلب التزامًا وتعاونًا وشفافية. إنه تحدٍ كبير، لكن مع الاستراتيجيات المناسبة والدعم الدولي، من الممكن إحراز تقدم كبير.
أذار 2025