تسليم الساحل السوري لقوات قسد خطوة إنقاذ لسوريا من التقسيم – د. محمود عباس

 

لقد أثبتت السنوات الماضية أن المشروع السياسي الوحيد الذي حافظ على اتزانه، وقدّم نموذجًا مستقرًا للحكم المحلي والإدارة، هو مشروع الإدارة الذاتية في غربي كوردستان، أو ما يُعرف بشمال وشرق سوريا.
في زمنٍ انهارت فيه معظم الكيانات السورية المعارضة، وفقدت شرعيتها أمام الداخل والخارج، لم يكن السبب في ذلك تشتّتها فحسب، بل لتغاضيها – بل وتواطؤها أحيانًا – مع الجماعات التكفيرية التي تحكّمت بمصير مناطق شاسعة تحت راية ما يُسمى بـ “المعارضة المسلحة”.

في المقابل، استطاع مشروع الإدارة الذاتية أن يُقدّم نموذجًا مدنيًا تعدديًا، يحترم التنوّع، ويضمن الأمن، ويُدير المجتمعات المحلية بشفافية نسبية، وسط بحر من الفوضى والانهيارات.

ولهذا، نراه اليوم المشروع السياسي والإداري الأنسب لكل سوريا، ولكافة مكوّناتها، لا كحلّ انتقالي، بل كصيغة دائمة، تفتح باب العدالة والمشاركة، وتغلق أبواب الاستبداد والهيمنة.

وحين نتحدث عن “هيئة تحرير الشام” أو ما يسمى “الجيش الوطني السوري” فإننا لا نتحدث عن تنظيمات محلية سورية عفوية، بل عن تشكيلات خارجية أيديولوجية عسكرية متطرفة، من قوميات مختلفة، لم تكن لتصل إلى هذا الحجم لولا الدعم المباشر وغير المباشر من تركيا، عبر تسليحها، وتوفير الغطاء السياسي لها، واستخدامها كأدوات لفرض نفوذها على شمال غرب سوريا.

هذه الجماعات، التي تضم الحمزات والعمشات، ما يُعرف بميليشيا “السلاطين”، لم تقم فقط بتشويه صورة الثورة، بل ارتكبت فظائع بحق المدنيين في عفرين وكري سبي وسري كانيه، كما شاركت أو تغاضت عن المجازر الطائفية في الساحل السوري، لا سيما ضد المكون العلوي، في ظل صمت مريب من الحكومة الانتقالية، وأولهم أحمد الشرع، الذي لم يجرؤ حتى اللحظة على إدانة تلك الجرائم أو المطالبة بمحاسبة مرتكبيها.

أما التذرع بعدم القدرة على مواجهة تلك الجماعات بسبب الحماية التركية، فهو اعتراف خطير بالعجز، وتسليم فعلي للقرار السيادي السوري لجهات أجنبية ذات مشاريع توسعية، والأسوأ أن الحكومة الانتقالية لا تملك حتى رفاهية الاستنجاد بالقوى الدولية، لأن أي محاولة من هذا النوع، سترفض لتغطيتها على الإرهاب من خلال الصمت، كما وستُجهضها تركيا فورًا، بذريعة “تهديد مصالحها”.

في هذه المعادلة القاتلة، لم يبقَ أمام أحمد الشرع وحكومته إلا التوجّه نحو الشريك الوحيد الذي يمتلك مشروعًا واضحًا، وقوى منضبطة، ودعمًا دوليًا ثابتًا، قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والإدارة الذاتية التي تمثّلها، ليس فقط لأن هذه القوات تمتلك القدرة على ضبط الأمن، بل لأنها تحظى بشرعية دولية، وتحمل في تجربتها السياسية مع الإدارة الذاتية، ومعها الأطراف الأخرى من الحراك الكوردي نموذجًا ديمقراطيًا محترمًا في نظر القوى الكبرى.

إن إشراك قوات قسد والإدارة الذاتية في تسيير شؤون الدولة، وتحمّل المسؤولية السياسية والأمنية، لن يُضعف الحكومة الانتقالية، بل سيمنحها وجهًا ديمقراطيًا موثوقًا في الخارج، وسيرفع عنها تهمة الانحياز أو التواطؤ مع الجماعات المتطرفة.

قوات قسد، بعقيدتها غير الطائفية، وبتجربتها الميدانية في إدارة المناطق المتعددة المكونات، تملك الإمكانيات والشرعية الدولية لتكون ركيزة الحل، وليس طرفًا هامشيًا فيه، ليست مجرد خيار عسكري، بل ضرورة سياسية وأخلاقية، تمنح الحكومة الانتقالية فرصة تاريخية للظهور بصورة المسؤول الجاد، لا المتواطئ أو العاجز.

وهي من أولى وأهم الخطوات الجادة نحو بناء سوريا جديدة تبدأ من تسليم منطقة الساحل إلى إدارة مدنية مسؤولة، تحت حماية قوات قسد، على أن يُستكمل هذا المسار بتحرير عفرين وكري سبي وسري كانيه من سيطرة الفصائل المدعومة تركيًا، لتشكيل شريط جغرافي ديمقراطي متصل، يقود إلى بناء وطني متكامل.

عندها فقط، يمكن لسوريا أن تخرج من نفق الفوضى.

عندها فقط، يمكن كبح جماح الجماعات التي تقتل باسم الطائفة، وتُمعن في ذبح التعددية.

أما دون ذلك، فإن البلاد ستبقى عالقة بين فكيّ الاستبداد والمقدس، بين شبح الإرهاب وهاجس الهيمنة، ويصبح المشروع الوطني السوري مجرد وهم، يذروه رماد الوقت، ودم الأبرياء.

عند هذه النقطة فقط، يمكن الحديث عن النظام الفيدرالي اللامركزي، لا بوصفه طموحًا كوردياً، بل كمخرج وطني شامل من الكارثة، فالفيدرالية اليوم ليست مجرد هيكل دستوري، بل هي مانع لانهيار الدولة، ودرع ضد الطائفية، وأداة لبناء شراكة حقيقية بين مكونات البلاد.

إن سوريا، التي تنزف من أطرافها، والتي تُستنزف طاقتها بين قوى الاحتلال ومشاريع الإسلام السياسي، لن يُنقذها إلا مشروع وطني جامع، يضمن التمثيل العادل، ويمنع الإقصاء، ويضع حدًا لاستباحة الدم باسم المعارضة.

فلا بناء لوطن على أنقاض الطوائف.

ولا معنى لحكومة انتقالية رهينة للميليشيات.

ولا مستقبل لسوريا دون الاعتراف بكامل الحقوق الكوردية، وبجميع مكونات سوريا الأخرى، لا على الورق، بل على الأرض، في النصوص، وفي السلطة، وفي الرمز.

 

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

mamokurda@gmail.com

مارس 2025م

4 Comments on “تسليم الساحل السوري لقوات قسد خطوة إنقاذ لسوريا من التقسيم – د. محمود عباس”

  1. الاستاذ القدير محمود عباس المحترم
    لا تعليق لي على محتوى الموضوع و المقترح عقلاني الى درجة كبيرة و أتفق معك في الكثير من ما تطرقت الية و لكن سوريا و نظام الجولاني لم يعترف بقوات سوريا الديمقراطية بشكل رسمي و لم تقبلها قوة مستقلة ضمن وزارة الدفاع التي يقودها مجموعة من الارهابيين المحترفين.
    ما يجري في سوريا هو مضي الجولاني في مشروعة الاسلامي المتطرف العميل لتركيا و النهج الفقهي لأخوان المسلمين جناح أردوغان. الجولاني لم يخطو خطوة واحدة بأتجاه التعددية و الديمقراطية بل قام بتأسيس دولة بوليسية فقهية اسلامية و لمدة 5 سنوات و بسيطرة شخصية من قبلة و أعلن نفسة القائد العام و الامر و الناهي في سوريا و قام ببسط صلاحيات شخصية أكثر حتى من صلاحيات أردوغان في تركيا و صلاحيات الملك السعودي و مرشد الثورة الاسلامي في ايران و حتى صلاحيات بشار الاسد.
    الجولاني لا يعترف بالاحزاب فكيف بالقوميات و بقوة عسكرية كقوات سوريا الديمقراطية. تعاملة الحالي و عدم أعلان الجهاد على قوات سوريا الديمقراطية ياتي فقط من ضعفة العسكري حاليا و من الدعم الدولي لقوات سوريا الديمقراطية بمجرد استطاعة الجولاني في الحصول على القبول الدولي و تمكنه من التحايل على الجميع فأنه فسوف يعلن الحرب و الجهاد على كل ماهو غير جولاني.
    لذا بأعتقادي من الاهمية بمكان الان التركيز على كشف ألاعيب الجولاني و ليس أعطاء مقترحات جميلة لشخص نعرف أهدافه و تطلاعاته المتطرفة.
    تقبل أحترامي
    هشام عقراوي

    1. شكرًا أخي هشام على ما تفضلت به،
      ولهذا السبب كتبت مرارًا أن هذا النظام آنٍ وعابر، ولن يدوم.
      وفي مقالي القادم، والذي سأنشره الأن، أعود للتنويه إلى هذه الحقيقة مرة أخرى.
      ما اقترحته في هذا المقال لا يمكن أن يصدر عن حكومة الجولاني أو عن تركيا، بل – إن حدث – فسيكون على الأرجح نتيجة لضغط من قوى خارجية، وفي مقدّمتها الولايات المتحدة.
      فلا شك أن هذه الحكومة الإسلامية المتطرفة لن تتغير، مهما بدّلت أقنعتها،
      لأنها، ببساطة، لا تملك مشروعًا حقيقيًا، بل أدوارًا مؤقتة.
      وهي – كغيرها ممن ادّعى الخلاص باسم الدين – ستزول، آجلاً أم عاجلاً.
      هذه الحكومة التي خرجت من تحت عباءة الإرهاب، لا شرعية لها، ولا مستقبل.
      هي مرفوضة بوضوح، ليس فقط من قبل المكونات السورية الأخرى – ومن بينهم الكورد الذين دفعوا دمًا ثمنًا لمواجهة التطرف – بل حتى من قلب المكوّن السوري السني ذاته.

      نعم، السوريون مسلمون،
      لكنهم ليسوا متطرفين، ولا قتلة، ولا سذّجًا يُقادون بالرايات السوداء.
      المسلم السوري الحرّ، الذي ثار ضد الاستبداد، لا يقبل أن يُمثله من لوّث الثورة بخطاب التكفير،
      ولا أن تُعاد صياغة البلاد تحت سيوف “الولاء والبراء”،
      ولا أن يُفرض عليه قَسَم الولاء لـ”زعماء الجهاد” الجدد.
      هذه الحكومة – التي تتلوّن بين لحظة وأخرى، من هيئة تحرير الشام إلى “الإدارة المدنية” –
      ليست سوى وجه آخر للاستبداد، مغلّف بالدين، ومشبّع بالإقصاء.
      وكل محاولة لفرضها على السوريين، هي خيانة لدم الشهداء، واستهزاء بعقول الناس.
      لا أحد ينسى من أين أتت…
      ولا أحد سيغفر ما فعلته، مهما ارتدت من ربطات عنق، ومهما رفعت شعارات “الدولة”.

  2. الاستاذ د. محمود عباس المحترم.
    تحية.
    للاطلاع:
    “تسليم الساحل السوري لقوات قسد خطوة إنقاذ لسوريا من التقسيم”. الله لا يسمع من حلكَك!
    الساحل السوري منطقة جغرافية تسكنها الطائفة العلوية التي انحدر منها حزب البعث البائد وتلجأ اليها أعضاؤه المدربين عسكريا والمدججين بالسلاح وسوف يقاومون النظام الحالي عاجلا أو آجلا. لماذا هذا الاقتراح بتوريط قسد في هذه المشكلة لانقاذ هذا النظام؟ النظام اسلاموي ضد الاديان الأخرى وطائفي سنّي ضد العلوية وعنصري ضد الشعب الكردي وسلفي ضد الانسانية. هذا الاقتراح يضاهي حماقة اجراء ارسال البيشمه ركَه الى المناطق السنية في العراق. ينبغي التمعن في الكتابة من قِبل الكرد القاطنين في برج العاج في أوربا وأمريكا وما بينهما وعدم اصدار الفتاوي السياسية. حزب البعث القومجي العربي هو القاسم المشترك بين البلدين وهو السبب لما آلت اليها لأوضاع في جميع بلدان الشام وما بين النهرين وما بينهما من الهلال الخصيب وحل محله في الحكم الاسلاموين الذين هم أسوأ من البعث على الصعيد الاجتماعي.

    محمد توفيق علي

  3. طيب انتم الكتاب و السياسين و احزاب و القادة الكورد لمذا لا تتحدثون عن تحرير كردستان و الدولة كردستان و أنتم تبكون على المحتلين و المستعمرين و المسطونين، و أنتم تعتبرون أنفسكم ملاءكة و أنتم روسول السلام على الرض يا الله على هذا العقول و على هذا الشعب، أنتم بعتم كردستان و كورد بقابل مصالحكم و بعتم ، كلكم نفس قماش و اليس فيكم رجل رشيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *