الحديث عن الوضع السياسي في سوريا اليوم يكشف واقعاً مريراً يتمثل في غياب أبسط مقومات الديمقراطية والتعددية السياسية. أبو محمد الجولاني، الذي تربع على عرش السلطة في سوريا بعد سقوط نظام الأسد، لم يقدم نموذجاً جديداً للحكم، بل أعاد إنتاج الدكتاتورية بحلة أيديولوجية دينية أكثر تشدداً. هذا النهج يجعل من سوريا حالة استثنائية حتى بالمقارنة مع دول مثل العراق، التي رغم فسادها ومشاكلها، تحتفظ ببعض ملامح العملية الديمقراطية.
غياب الديمقراطية والتعددية
في سوريا اليوم، لا وجود لأحزاب سياسية أو انتخابات حرة أو تداول سلمي للسلطة. الجولاني هو الحاكم بأمره، يحدد كل شيء بنفسه دون أي شكل من أشكال المشاركة الشعبية أو التمثيل السياسي. حتى الأنظمة السابقة، مثل نظام صدام حسين وبشار الأسد، كانت تحتفظ بـ”أحزاب كارتونية” توحي بوجود تنوع سياسي، رغم أنها كانت مجرد أدوات لتجميل الصورة. أما في سوريا الجولاني، فلا مكان حتى لهذه “الزينة”. الديمقراطية بالنسبة له ليست سوى فكرة مؤجلة إلى أجل غير مسمى، بينما يستمر في الحكم لخمس سنوات دون أي مبرر واضح لهذا الاختيار الزمني، في حين كان بإمكانه تشكيل حكومة مؤقتة لمدة سنة أو سنتين، مما قد يعطي بعض الأمل بانتقال تدريجي نحو الديمقراطية.
مقاربة مع العراق وأقليم كوردستان
على الرغم من المشاكل العميقة التي تعاني منها العملية الديمقراطية في العراق، إلا أن هناك قوى سياسية متعددة تشارك في الحكم، وهناك انتخابات تنظم بشكل دوري، حتى وإن كانت نتائجها محل شكوى بسبب الفساد والمحاصصة. في أقليم كوردستان، على سبيل المثال، هناك دستور يسمح لأي شخص من سكان الإقليم بأن يكون رئيساً أو وزيراً، وتُخصص مقاعد للمسيحيين والتركمان في البرلمان رغم أن نسبتهم السكانية ضئيلة مقارنة بالكورد. هذه الأمثلة توضح أن هناك خطوات، ولو صغيرة، نحو التعددية والتمثيل العادل، بينما في سوريا الجولاني، لا يوجد حتى أدنى فرصة لمشاركة الآخرين في السلطة.
الطائفية والاستبداد
الجولاني لم يكتفِ فقط بتهميش الديمقراطية، بل أسس لنظام طائفي ومذهبي يعتمد على الفكر السلفي المتطرف. هذا النظام أجبر المكونات الأخرى، مثل الكورد والدروز وحتى بعض العلويين، على الدفاع عن أنفسهم خوفاً من بطش “الفقه الإسلامي” الذي يتبناه الجولاني. لو أعلن الجولاني نظاماً مدنياً يقوم على فصل الدين عن الدولة، لكان من الممكن بناء سوريا جديدة يشعر فيها الجميع بالأمان، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو العرقية. لكنه اختار الطريق الأسهل: الاستبداد باسم الدين، مما أدى إلى تصعيد التوترات الطائفية والمذهبية.
المقارنة مع العراق
من المفارقات أن الجولاني، الذي ارتكب فظائع ضد الشيعة في سوريا، يجلس اليوم مع قادة الشيعة في العراق. هذه المفارقة تكشف عن نفاق سياسي حيث يسعى الجولاني إلى تحسين صورته إقليمياً، بينما يواصل سياساته القمعية داخل سوريا. لو أنه اتبع نهجاً ديمقراطياً حقيقياً، لما احتاج إلى مثل هذه اللقاءات الخارجية، ولما كان هناك حاجة لتقديم اعتذارات أو بناء علاقات على أساس المصالح المؤقتة.
الخلاصة
سوريا اليوم ليست أفضل حالاً من العراق، بل هي أسوأ بكثير. في العراق، رغم الفساد والمحاصصة، هناك عملية سياسية قائمة ومشاركة شعبية ولو بشكل نسبي. أما في سوريا، فالجولاني حوّل البلاد إلى سجن كبير حيث لا حرية ولا حقوق. إذا أراد الجولاني أن يغير صورته أمام العالم، عليه أن يبدأ بتطبيق الديمقراطية والتعددية، وأن يفصل الدين عن الدولة، وأن يمنح جميع المكونات السورية حق المشاركة في بناء مستقبل بلدهم. حتى ذلك الحين، ستبقى سوريا رهينة لدكتاتورية جديدة ترتدي قناع الدين.