في عالمنا الإسلامي، لا شيء يُوحِّدنا كما تفعل الخلافات، فبينما تفشل جهود الوحدة السياسية والاقتصادية، نثبت مرارا وتكرارا أننا نستطيع الاختلاف حتى على المسائل التي يُفترض أن تكون بديهية، وآخر حلقات هذا المسلسل الممتد منذ قرون كان “لغز” عيد الفطر المبارك لهذا العام، أو كما يحلو للبعض تسميته: “حرب الأهلة الكبرى”.
فبعد أن أعلن ديوان الوقف السني في العراق، أن يوم الاثنين 31 مارس هو أول أيام العيد، وهنا، كعادتها، تحوَّلت وسائل التواصل الاجتماعي إلى محكمة تفتيش حديثة، وانطلقت أبواق الاتهامات يمينا ويسارا، وبدلا من الاحتفال، انطلق موسم التخوين السنوي: العلماء متآمرون، الفلكيون عملاء، وحتى القمر نفسه متواطئ مع الأجندات الخفية.. واتُّهِم الوقف السني في العراق بخيانة الأمانة والرضوخ لـ”الدولة العميقة”، وبالطبع، لم يكن الأمر مجرد رؤية هلال، بل مؤامرة عالمية ضد عيد الفطر وضد فرحة المسلمين، لأن من الواضح أن قوى خفية قررت التدخل في توقيت العيد أيضا، وربما قامت بتزوير وثائق سفر الهلال حتى لا يظهر في الوقت المحدد!!
لكن مهلا… هل كانت هذه الخيانة حكرا على العراق وحده؟ أم أن هناك شبكة دولية من “المتآمرين الخونة” الذين تآمروا لإفساد فرحة المؤمنين؟ لأنه، وللغرابة، أعلنت دول مثل مصر، ليبيا، المغرب، سلطنة عمان، الأردن، سوريا، إيران، أستراليا، سلطنة بروناي، إندونيسيا، ماليزيا، بنجلاديش، باكستان والهند أن الأحد مكمّل لشهر رمضان، والاثنين هو العيد، فهل كل هذه الدول تعمل ضمن أجندة سرية رضخت لضغوط القوى الخفية والدولة العميقة تهدف إلى تدمير فرحة المسلمين؟ أم أننا أمام معضلة لا تتعلق بالمؤامرات بقدر ما تتعلق بالحسابات الفلكية والتقنية؟ بالطبع، المؤامرة تبدو أكثر إثارة، أليس كذلك؟
وفي المقابل، هناك الدول “المستقلة” و”الصلبة” في قراراتها، والتي يمكن أن نطلق عليها مجازا دول “المقاومة الفلكية”، وقفت في وجه هذا التيار العالمي وأعلنت أن الأحد 30 مارس هو العيد بلا تردد، نعم، لقد رفضوا الخضوع لهذه المؤامرة الكونية، وأصروا على الاحتفال بالعيد كما تشتهي أمزجتهم الفقهية والسياسية، ولأن لديهم خبراء في علم الفلك “الحدسي” الذين يستطيعون رؤية الهلال حتى لو كان مختبئا خلف الغيوم أو وراء الشمس، وربما حتى داخل خزانة أحد الفلكيين المغضوب عليهم، وعلى رأس هذه الدول: السعودية، قطر، الإمارات، الكويت، البحرين، لبنان، وفلسطين، فهل أصبح الآن معيار الأغلبية والأقلية يُحسب بعدد الدول التي اتخذت القرار؟ أم بعدد الدول التي نحب قراراتها أكثر؟ أم أن المسألة برمتها لا تزال غارقة في فوضى “كلٌّ يغني على ليلاه”؟ المهم أننا لا نتفق، وهذه هي الفكرة الأساسية.
الغريب أن الأمر لم يعد يُناقش وفقا لمعايير علمية واضحة، بل وفقا للولاءات الجغرافية والسياسية، لم يعد السؤال عن إمكانية رؤية الهلال، بل عن هوية من أعلنه أولا!.. ولو ظهر الهلال في إحدى الدول المخالفة، لتم اتهامه بالخيانة العظمى، فالكل يحاول إثبات صحة موقفه، لا عبر الأدلة الفلكية، بل عبر الصراخ الإعلامي والتخوين الجماعي، في حين أن المنطق يُحتّم علينا جميعا أن نتفق على معايير موحدة وواضحة للرؤية، سواء كانت بالعين المجردة أو باستخدام التقنيات الحديثة، لكن يبدو أن التراشق بالاتهامات أكثر إغراء من اللجوء إلى المنطق.
فمنذ متى أصبح الاحتفال بعيد الفطر يعتمد على مواقف سياسية أكثر من كونه مناسبة دينية؟ الإجابة قد تكون مفاجئة، منذ اللحظة التي قرر فيها البعض أن يرقصوا على وتر الفروق الفلكية والشخصية، وأن يملؤوا صفحات الجرائد بتواريخ متباينة لبداية العيد، وكأن كل واحد منهم يريد أن يثبت أنه الأكثر تقوى، أو الأكثر “علمية” في تحديد مواعيد رؤية الهلال، ففي البداية، كان الأمر بسيطا، مجرد مراقبة للهلال بالعين المجردة، لكن مع تطور الزمن، أصبح الهلال نفسه يتعرض للتسييس، وكأن الأمر أشبه بمعركة “من سيعلن عن العيد أولاً؟”، أو كأنها مسابقة للجائزة الكبرى لاختيار أول من يشهر سيفه في مواجهة المزايدات الدينية والسياسية.
لكن أين تكمن المشكلة؟ أولاً، هناك من يرى في هذا التباين من مواعيد العيد مجرد “لعبة سياسية”، فكما يُقال: “فرق تسد”، أولئك الذين يتبنون هذه الفكرة يرون أن الاختلافات في تحديد مواعيد العيد ليست إلا محاولة لزرع بذور الفتنة بين أبناء المجتمع الواحد، بحيث يصبح العيد مناسبة للاحتجاج السياسي بدلاً من أن يكون مناسبة للتآلف الاجتماعي.
والقصة لا تنتهي هنا، فإن قسوة التباين في الآراء تبدو جلية في تصاعد النزاع حول طرق رؤية الهلال، متناسين أن العيد في النهاية هو فرحة جماعية لا يمكن أن تقتصر على فئة أو طائفة، فالمشكلة ليست فقط في “من يرى الهلال أولاً”، بل أيضا في “من يقرر أن هذه هي الطريقة الوحيدة لرؤية الحقيقة”، كأن هناك قانونا سياسيا لا يقبل أي رأي آخر، وكأن هذا “الاختلاف” هو ضرب من العبث الذي لا يهم إلا أولئك الذين يعتقدون أن الخلافات الدينية هي أكثر أهمية من توحيد المجتمع وتيسير الفرح.
لكن في نهاية المطاف، سيكون هناك من يحتفل، وسيكون هناك من ينتقد، ستظل الاختلافات حاضرة، وستبقى الأسئلة قائمة: هل سيتفق الجميع على شيء بسيط مثل تحديد موعد العيد، أم أن الاختلاف سيظل “هلالا” سياسيا يحتاج إلى رؤية بعين متحيزة؟ وفي النهاية، سواء كان العيد الأحد أو الاثنين، فإن النتيجة واحدة: فريق سيحتفل اليوم، وفريق آخر سيصوم وهو يتفرج على جيرانه يلتهمون الكليجة والمعمول ويتبادلون التهاني، بينما هو يحتفظ بمصحف صغير ووجه عبوس ليؤكد للجميع أنه ما زال في رمضان، وهناك فريق ثالث “دائما موجود” لا يهمه في أي يوم يقع العيد، بقدر ما يهمه في أي يوم سيتم صرف الراتب، المشكلة ليست في متى نعيد، بل في كيف نُحوّل كل مناسبة دينية إلى ساحة معركة، حيث تتصارع الفتاوى وتتناطح البيانات الرسمية، وكل طرف يصرّ على أنه وحده من يملك الحقيقة المطلقة، فيما ينظر إلينا باقي العالم ويتساءل: “كيف استطاعوا جعل حتى القمر مثار جدل؟” وبينما نحن مشغولون بفرز الناس بين “أهل الحدس” و”أهل الحساب”، يستمتع العالم بالكعك والقهوة وينتهي من العيد قبل أن نقرر حتى متى يبدأ.
كل عام وأنتم بخير… أيا كان اليوم الذي تحتفلون فيه