من يتأمل مشهد الصراع في المنطقة خلال الأعوام الأخيرة، يدرك أن الخطوط التي كانت تبدو متقابلة في الظاهر قد تلاشت لصالح تحالفات خفية، يجمعها العداء لمحور المقاومة والسعي لتفكيك وحدة الدول المركزية في الإقليم، وعلى رأسها سوريا والعراق.
المفارقة الأبرز تكمن في سلوك تركيا التي ترفع صوتها بالشعارات المعادية للكيان الصهيوني، لكنها في العمق تسير ضمن خريطة تنسيق استراتيجي أمني وعسكري واقتصادي مع هذا الكيان، بما يتقاطع تمامًا مع مصالحه. الدعاء الذي أطلقه أردوغان في عيد الفطر الأخير (مارس 2025) : ” اللهم بحرمة اسمك الشريف “القهار” دمّر إسرائيل الصهيونية، واجعلها في شتات وهلاك”، لا يعدو كونه واجهة إعلامية للتغطية على واقع تعاون طويل الأمد بدأ منذ عقود، حين تم فتح الأجواء التركية أمام الطائرات الصهيونية، واستقبال كبار ضباط الموساد في أنقرة، واستمر حتى اليوم عبر سياسة تواطؤ صريحة في الملف السوري.
الكيان الصهيوني يواصل شنّ عدوانه على سوريا بوتيرة متصاعدة، حيث نفّذ منذ ديسمبر 2024 عشرات الغارات التي استهدفت مواقع عسكرية وبنية تحتية واستراتيجية، وتسببت في خسائر بشرية ومادية كبيرة، دون أن يصدر أي رد فعل أو تصريح يُذكر من الرئيس السوري أحمد الشرع، الذي وصل إلى السلطة بعد سقوط نظام بشار الأسد في خضم ترتيبات إقليمية مشبوهة. الشرع الذي كان يوماً يوصف برجل الظل، بات اليوم شريكاً في الصمت، بل وذهب البعض إلى اتهامه بتسهيل الضربات عبر التنسيق غير المباشر مع الاحتلال، بموافقة ضمنية من تركيا.
الفصائل المسلحة التي تديرها تركيا في سوريا ، وعلى رأسها هيئة تحرير الشام بقيادة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني سابقاً)، لم تطلق طلقة واحدة تجاه الكيان الصهيوني، رغم تكرر العدوان. هذه الفصائل تشتبك فقط مع القوى المناهضة للاحتلال في سوريا، أو مع الوحدات الكردية، أو مع مجموعات المقاومة الشعبية، بينما تبقى صامتة تمامًا حيال الطائرات التي تعبر سماء إدلب واللاذقية لتنفذ ضرباتها وتعود سالمة.
لا يمكن فهم هذا السلوك دون العودة إلى التاريخ العثماني، حين فتحت السلطنة أبواب فلسطين أمام الحركة الصهيونية، ثم جاء يهود الدونمة الذين تنكروا بالإسلام، ليؤسسوا لاحقًا نواة الحكم في تركيا الحديثة، ويحافظوا على علاقاتهم المتينة مع القيادات الصهيونية، وصولًا إلى مرحلة التنسيق الرسمي والاقتصادي الكبير في عهد أردوغان. تركيا لم تتخلَّ يومًا عن علاقتها بالكيان، بل طوّرتها لتشمل مجالات الطاقة والتقنيات العسكرية والاستخباراتية، والربط الاستراتيجي في منطقة شرق المتوسط.
أما في العراق، فالمشهد لا يقل خطورة. تمتلك تركيا أكثر من 72 قاعدة عسكرية شمال العراق، تحت ذرائع مكافحة حزب العمال الكردستاني، لكنها في الواقع تسعى لترسيخ وجود طويل الأمد يضمن لها التحكم بمفاصل حيوية في الجغرافيا العراقية، وخاصة الممرات التي قد تُستخدم مستقبلًا لنقل الغاز القطري إلى أوروبا، وهو ما يتقاطع مع مشاريع الاحتلال الصهيوني في نفس الاتجاه. ما يُثير الاستغراب أن الحكومة العراقية بقيادة محمد شياع السوداني، رغم تعهداتها بسيادة العراق، لم تقم حتى الآن بأي إجراء عملي ضد هذا التمدد التركي، لا عبر شكوى في مجلس الأمن، ولا بتحرك عسكري أو سياسي فعّال، بل تكتفي بتصريحات خجولة لا ترقى إلى حجم التهديد.
هنا تُطرح الأسئلة الكبرى: لماذا الصمت الرسمي تجاه الاحتلال التركي؟ ولماذا لا تتحرك بغداد لتحرير أرضها التي تُنتهك يومياً؟ ولماذا لا يتم فتح قنوات تنسيق فعلي مع إيران وقوى المقاومة لتطويق هذا الخطر؟
إيران، انسحبت من سوريا وماعاد لها وجود عسكري بعد سقوط نظام بشار الأسد ، لكنها تستمر في دعمها لفصائل المقاومة في العراق ولبنان. هذا الدعم، وإن كان يواجه صعوبات لوجيستية في بعض الأحيان، يوفّر مظلة استراتيجية للردع ويمنع الكيان الصهيوني من التمدد بلا تكلفة. لكن هذا لا يعفي جيران سوريا إيران، وفي مقدمتهم الحكومة العراقية، من التحرك بجرأة على المسرح الدولي، لمواجهة الاحتلال التركي والصهيوني معًا، ووقف التحالف الذي يهدد العراق وسوريا معاً.
تركيا لا تخوض معركة “دفاع عن الأمن القومي” كما تدّعي، بل هي جزء من مشروع تفكيكي للمنطقة، تشارك فيه بتفاهمات مباشرة وغير مباشرة مع الكيان الصهيوني. وما أحمد الشرع إلا شريك إضافي في هذا المشروع، يوفر غطاءً خادعًا لمواصلة العدوان الصهيوني على سوريا، ويمارس سياسة إقصاء ممنهج لقوى المقاومة، تحت ستار “الشرعية الجديدة” التي وُلدت من فراغ سياسي صنعته قوى التدخل والتآمر.
هذه الحقائق لم تعد خافية، وما يهم اليوم هو وضوح الرؤية لدى الشعوب، وتصعيد الضغط على الحكومات العربية التي تدّعي الاستقلال، لتخرج من صمتها، وتكسر حاجز الخوف، وتعيد الاعتبار للمقاومة كخيار وجودي، لا تكتيك مرحلي.
فلا تركيا، ولا الشرع، ولا الكيان الصهيوني، يستطيعون الاستمرار دون تواطؤ من الداخل. وإن سقطت هذه التواطؤات، ستسقط مشاريعهم.
الحشد الشعبي والإعلام الصهيوني
في خضم التحولات العسكرية والسياسية التي تعصف بالإقليم، يبرز الحشد الشعبي في العراق كقوة وطنية مستقلة تمثّل جوهر السيادة العراقية المعاصرة. ورغم ما يُروَّج خارجيًا من محاولات لربط الحشد بإيران أو بوصفه أداة تابعة لها، إلا أن الواقع يُكذّب ذلك بوضوح. الحشد الشعبي خاضع إداريًا وقياديًا لمكتب القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أي للحكومة العراقية مباشرة، وتحديدًا لرئيس الوزراء محمد شياع السوداني. لا يتلقى تعليماته من طهران، ولا ينفذ أجندة خارجية، بل ينشط في حماية حدود العراق، والتصدي للتغلغلين الإرهابي والصهيوني، وللاحتلال التركي شمال البلاد.
هذا ما يفسر أيضًا لماذا تتعمد بعض الجهات الدولية، والإعلام الصهيوني تحديدًا، مهاجمة الحشد أو تشويهه، لأنه يشكّل حجر عثرة أمام مشروع الهيمنة الجديد على العراق. بالمقابل، تُمارَس حملة إعلامية منظمة لتلميع صورة كل من أحمد الشرع، رئيس النظام السوري الجديد، ورجب طيب أردوغان، زعيم تركيا الحالي. هذه الحملة يقودها إعلام الاحتلال الصهيوني ذاته، عبر قنوات ناطقة بالعربية، ومنصات رقمية تنتحل صفة “محايدة” أو “إصلاحية”.
الهدف من هذا التلميع ليس بريئًا، بل تكتيك مدروس لتقديم شخصيات تقبل بالتنسيق مع الكيان الصهيوني وتُظهر استعدادًا للانخراط في ترتيبات أمنية إقليمية، تحت عناوين “مكافحة الإرهاب”، أو “إعادة الإعمار”، بينما يُمنح الاحتلال الإسرائيلي حرية الضرب في العمق السوري، والتوسع الاقتصادي في العراق، بدعم تركي وصمت رسمي من دمشق وبغداد.
دور إقليم كردستان
لا يمكن الحديث عن النفوذ التركي والصهيوني في العراق من دون التوقف عند الدور الذي يلعبه إقليم كردستان، بوصفه الممر الهادئ للمشروع المشترك التركي–الصهيوني. فمنذ سنوات، سمحت حكومة الإقليم بتحوّل أراضيها إلى ممر لوجستي ومعلوماتي يخدم الوجود العسكري التركي، ويمهّد لتنسيق استخباري متقدم مع كيان الاحتلال، تحت ستار العلاقات الاقتصادية والتجارية.
التقارير الاستخبارية المسرّبة منذ 2022، وتلك التي أكدتها مصادر أممية خلال 2024–2025، تشير إلى أن عددًا من الشركات “المدنية” التي تنشط في الإقليم ليست إلا واجهات تغطية لنشاط استخباراتي صهيوني، يعمل تحت حماية وموافقة تركية. هذه الشركات توظف تقنيات مراقبة واتصالات، وتوفر معلومات ميدانية يتم تمريرها سواء إلى أنقرة أو إلى تل أبيب، وغالبًا ما يتم استخدامها في التخطيط لغارات أو عمليات استهداف ضد فصائل المقاومة في سوريا والعراق.
أكثر من ذلك، فإن المطارات المدنية في أربيل والسليمانية تُستخدم أحيانًا كنقاط توقف لرحلات خاصة مرتبطة بجهاز الموساد، بحسب ما تؤكده مصادر في الصحافة الغربية، وتمارس هذه الطائرات مهامًا تتعلق بالمراقبة الإلكترونية أو نقل معدات متطورة. ورغم أن الحكومة العراقية المركزية على علم بهذا النشاط، إلا أن الرد الرسمي ظلّ محدودًا ومجردًا من أي ردع فعلي.
المشكلة ليست في موقف الإقليم فحسب، بل في غياب موقف صارم من بغداد. رئيس الوزراء محمد شياع السوداني لم يتخذ حتى الآن أي إجراء يُذكر لمنع التغلغل التركي والصهيوني في الإقليم، أو على الأقل الحدّ من حرية هذه التحركات. لا ضغط سياسي، ولا تهديد بالعقوبات المالية، ولا حتى حديث إعلامي صريح يحمّل أربيل مسؤولية خرق السيادة الوطنية.
إنّ استمرار هذا الصمت يمنح الضوء الأخضر لاستكمال تنفيذ المشروع: ممر أنابيب الطاقة القطري–التركي عبر العراق، وتكريس مناطق آمنة تحت الوصاية التركية، وتصفية ما تبقّى من معاقل مقاومة على الأرض السورية والعراقية، وكل ذلك بخدمات لوجستية ميدانية تأتي من داخل أراضي كردستان، وبحماية استخباراتية من تحالف كيان الإحتلال–أنقرة.
لهذا، فإن المطلوب اليوم من الحكومة العراقية ليس فقط رفض الاحتلال التركي بالقوة، بل إعادة ضبط العلاقة مع إقليم كردستان وفق مبدأ السيادة الوطنية الكاملة، وتجريم أي تعاون مباشر أو غير مباشر مع الكيان الصهيوني، والتدقيق في أنشطة الشركات الأجنبية، ومراجعة كل الاتفاقيات الأمنية والتجارية القائمة، وخاصة تلك التي ترتبط بتركيا.
الفرصة ما زالت قائمة. الحشد الشعبي مستعد وباقي القوات المسلحة والأمنية التي كان لها شرف تحرير العراق من الإرهاب ، والشعب العراقي واعٍ، والوقائع واضحة. ما ينقص فقط هو القرار السيادي الجريء، والتوجه الحقيقي لقطع أذرع المشروع الصهيوني–التركي، سواء في الشمال أو الجنوب، في الإعلام أو الاقتصاد، في الهواء أو تحت الأرض.