أعلن البنك المركزي العراقي يوم الإثنين 31 اذار/ مارس 2025، عن ارتفاع الدين الداخلي مع انخفاض الاحتياطي الأجنبي لعام 2024 والذي بلغ 130.81 ترليون دينار منخفضاً بنسبة 10.18 مقارنة بنفس الفترة من العام 2023 التي بلغ فيها 145.64 ترليون دينار. والسبب في ذلك يعود الى ارتفاع الدين العام، وذلك لتغطية العجز الحقيقي في الميزانية العامة للدولة. وأشار التقرير الى ان الدين العام الداخلي للعراق ارتفع بنسبة 17.70 ليصل الى 83.05 ترليون دينار خلال عام 2024، مقارنة بعام 2023 الذي بلغ فيه 70.56 ترليون دينار.
وعلى ضوء ما جاء في البيان المذكور، أود أن أقدم بعض الملاحظات على محتوياته والموازنات العامة، وكالاتي:
- إن ارتفاع الدين العام الداخلي أصبح نهجاً دائماً في الميزانيات العامة للدولة. حيث تمثل النفقات التشغيلية 75٪ والنفقات الاستثمارية 25٪ منها، وهي بذلك موازنات إنفاقيه لا موازنات برامج. وعليه فإن حصة أكبر من الدين تذهب لتغطية النفقات التشغيلية. ويعتبر سوء السياسة المالية والنقدية في تنفيذ الميزانيات أحد الأسباب الرئيسية في تفشى الفساد بشكل كبير في الانفاق التشغيلي والاستثماري.
- أن المبالغ المخصصة للتوظيف والتشغيل والرعاية الاجتماعية ضمن النفقات الجارية ًفي الموازنات العامة قد تمثل المعدل بحدود 60٪ من إجمالي النفقات التشغيلية، وهي نسبة عالية جدا، وتمثل مجموع الرواتب نصفها أي بحدود 30٪. هناك الاف مَنْ يُطلق عليهم (الفضائيين) مسجلين كعاملين في أجهزة الدولة، أو أعداد اخرى يتقاَضون أكثر من راتب واحد أو يعيشون في الخارج و/أو فارقوا الحياة. كذلك يتمتع اللاجئون السابقون في مخيم رفحاء في السعودية عام1991، بامتيازات مالية كبيرة من: الرواتب، والتقاعد، والتعويضات، واستلام قطعة أرض وغيرها، وأصبحوا فيما بعد لاجئين في الدول الاوربية ويستلمون ايضاً مساعدات مالية و اجتماعية منها. تتقاضي الفئة البيروقراطية في قمة الإدارات الحكومية رواتب عالية غير عادلة بالنسبة لمستويات الرواتب والسلم الإدارية. كذلك تصرف الدولة سلفاً لأغراض مختلفة، مثل الشراء من قبل لجان المشتريات أو للمسؤولين في حالة السفر بمهمة رسمية الى خارج البلاد، من دون إجراء تسويات حسابية أصولية لهذه السلف، وتُعامل فيما بعد كديون معدومة، وهي لذلك بمثابة فساد مالي يتعذر استحصالها. وهناك مليارات من الدنانير لهذا الملف لم تجرٍ عليها التسويات الأصولية اللازمة. أن النفقات السياسية والأمنية، هي الأخرى مهيمنة في الموازنات، وتشمل (الدفاع والأنفاق العسكري، والامن، والخارجية، والداخلية، والعدل، والبرلمان، ورئاستي الوزراء والدولة).
ان سياسة التمويل بالعجز لهذه النفقات العمومية، لا تؤدي الى خلق الزيادة في تراكم راس المال الثابت، كما يذهب البعض، وكما هو الحال في الانفاق الاستثماري، بل تشكل وسيلة لتراكم الثروات في أيدي الأقلية، وبالتالي زيادة المديونية، وتفاقم عجز الموازنات العامة والالتجاء الى الديون الداخلية والخارجية، وتتحول في نهاية المطاف الى حالة مزمنة يرافقها ارتفاع التضخم، والكساد والبطالة وارتفاع العبء الضريبي. وكل هذه النتائج تنعكس
على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للطبقات المسحوقة، بسبب سوء إعادة توزيع الدخل بين طبقات وفئات المجتمع. وكذلك ارتفاع النفقات التشغيلية
ذات الطابع الاستهلاكي على حساب النفقات الاستثمارية.
- أن الفساد المالي والإداري في المجال الاستثماري مستشري بشكل واسع على كافة المستويات الإدارية والحزبية، ويتضمن: إحالة المشاريع بكلف عالية عن كلفها الحقيقية، وعدم التقيد في كثير من الحالات بنظام طرح العطاءات الاستثمارية للمنافسة واحالتها على أساس احسن الكلف والجودة والتنفيذ، وقد تصرف السلف في كثير من الاحيان لمقاولي القطاع الخاص قبل البدء بالعمل الفعلي ويعتبر هذا الإجراء منافياً للقوانيين والاصول والاعراف المحاسبية، فمن المفروض ان يبدأ المقاول بإنجاز جزء من العمل ومن ثم يقدّم المسؤول عن المشروع تقريراً مصدقاً على هذا الانجاز الى قسم الحسابات لصرف كلفة انجاز عمله، وذلك لتوفير السيولة النقدية للمقاول واستمراره في تنفيذ المشروع ضمن المدة المحددة في العقد، وبذلك تعتبر هذه الحالة أحد أوجه الفساد المالي. وفي هذا السياق نورد امثلة وليس حصراً، كما كشف عضو لجنة الاستثمار والتنمية البرلمانية، ياسر الحسني، اليوم الأربعاء 19آذار/مارس 2025، عن أسباب الإخفاق الحكومي في فتح ملف الشركات الاستثمارية والشبهات المرتبطة بها، وقال: بعض الشركات التي حصلت على فرص استثمارية مختلفة لا تملك أي مؤهلات للقيام بهكذا أعمال، ولكن التدخلات السياسية تفرض بعض تلك الشركات، وأوضح قائلاً: ” ولهذا [فإن] الفساد السياسي يتدخل في أي ملف يتضمن اموالاً، ولذا نرى هناك شبهات وصفقات العمولات تدفع من قبل بعض الشركات، وبعض الشركات تتعرض للابتزاز قبل حصولها على أي عمل استثماري”… وذكر ايضاً “ان مؤشر قياس المخاطر العالمي للأعمال والاستثمارات للعام الجاري 2025 ، وضع العراق بالمنطقة الحمراء، وهي شديدة الخطورة خلال أخر إحصائية له صدرت مطلع العام الحالي والتي أكدت ان بيئة الاستثمار في العراق عالية المخاطر.”
- أن تأخير انجاز الحسابات الختامية للموازنات العامة لعدة السنوات منذ العام 2003 ولحد ميزانية العام السابق، وعدم تدقيقها من قبل هيئة ديوان الرقابة المالية بانتظام في وقتها، وإرسال التقارير بشأنها الى البرلمان لمناقشتها والمصادقة عليها حسب الأصول، تؤدي الى اضعاف دور الرقابة في قياس كفاءة الإداء والإنتاجية على أساس الأهداف والبرامج الحقيقية للمؤسسات والدوائر الحكومية، وقياس نسبة التبذير والنفقات غير الضرورية، وصعوبة كشف الفساد المالي والإداري فيها ومتابعة كفاءة تنفيذ الموازنات من خلال الإنجاز الفعلي نهاية كل سنة للحسابات الختامية.
- هناك خلل بنيوي في تركيبة الموازنات العامة العراقية منذ عقدين من الزمن بين الإيرادات التي تعتمد على عائدات النفط والتي تتأثر بتبعيات التقلبات في أسعار سوق النفط العالمي، والانفاق وهذا الخلل البنيوي في تزايد مستمر وخاصة في الأبواب التشغيلية منها وتكون لصالح الأخير. وكذلك الحال بين الانفاق التشغيلي والاستثماري لصالح الأول. والحالة هذه تؤدي الى: تراكم المديونية وتبعاتها مع استنزاف موارد الدولة المالية، ويجعل من الموازنات العامة موازنة استهلاكية بدلا من موازنة إنتاجية تساهم في خلق القيمة المضافة وزيادة نصيبها من الناتج المحلي الإجمالي، وانعكاس اثارها الإيجابي
على التنمية المستدامة والنمو الاقتصادي.
- ختاماً، من المفروض ان تستخدم الإيرادات الريعية للنفط والتي تساهم بأكثر من 90٪ لتمويل إيرادات الميزانيات العامة سنوياً في انجاز المشاريع الإنتاجية في مجال التصنيع، منها: انتاج الكهرباء وحل أزمتها الخانقة، وتأهيل المؤسسات الصناعية العاطلة عن العمل، وحل مشكلة البطالة والفقر، وبالمثل في مجال الزراعة والنقل والمواصلات، وفي تحسين مستويات التعليم والصحة، والبناء التحتي والخدمات المرطبة بها. كذلك جباية الضرائب بشفافية ومحاربة الفساد فيها وزيادة مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي والميزانيات العامة. التوجه كذلك نحو تأسيس صناديق الثروة السيادية الاستثمارية، لتحويل الفوائض المالية او النقدية الى أصول اقتصادية واستخدامها في المجالات الاستثمارية، وهي أيضا كأداة للإصلاح الاقتصادي. كل ذلك بهدف إيجاد مصادر متنوعة للإيرادات، وبالتالي تقليل الاعتماد على النفط بحيث تصبح مساهمته بحدود 40٪ ـ- 50٪ من إيرادات الميزانيات العامة في الأمد المنظور. ولتحقيق ذلك يتطلب من الدولة أداء مهامها بدرجة كبيرة من المسؤولية والشفافية، والاسترشاد باركان الإدارة الرشيدة المعروفة وبأحسن وجه ممكن، وذلك من خلال التنمية الاقتصادية ـ- الاجتماعية الشاملة والمستدامة يتحقق فيها: الأمن والاستقرار، والعدالة والمساواة، والحياة الكريمة للمواطنين، والتقدم والازدهار في البلاد.
* دكتوراه في فلسفة الاقتصاد الكمي/ محاسبة التكاليف، باحث أكاديمي متقاعد في النظام المحاسبي
(1) المقال منشور على شبكة الاقتصاديين العراقيين بتاريخ 08/04/2025