أطياف النفوذ وسراب القوة: إيران والعراق في متاهة التحولات الجيوسياسية – بوتان زيباري

في قلب المتغيرات العنيفة التي تعصف بجسد المنطقة، تبرز إيران ككيان يتأرجح بين ذروة النفوذ وحافة الانهيار. فبعد هجمات السابع من أكتوبر، التي مثلت زلزالًا سياسيًا أعاد تشكيل خريطة التحالفات والصراعات، وجدت طهران نفسها في موقف المفترس الذي تحول إلى فريسة. لقد كانت إيران، منذ اندلاع الربيع العربي في 2011، تُحكم قبضتها على خيوط اللعبة الإقليمية، من لبنان إلى اليمن، مرورًا بسوريا والعراق. لكن اليوم، يبدو أن رياح التاريخ تعاكس اتجاهها، فَتُجرفها نحو هوامش الجغرافيا السياسية، حيث تتراجع حدود نفوذها من البحر المتوسط إلى تخوم الحدود السورية-العراقية.

الحشد الشعبي: بين المطرقة الإيرانية والسندان العراقي

في هذا المشهد المعقد، يطفو “الحشد الشعبي” كأهم قطعة في أحجية النفوذ الإيراني بالعراق. هذا الكيان، الذي يجسد التناقض بأبهى صوره، ليس سوى مرآة تعكس ازدواجية الهوية العراقية بين الولاء الوطني والتبعية الأيديولوجية. فمن ناحية، هو ابن شرعي للحرب على الإرهاب، ومن ناحية أخرى، هو أداة في يد طهران لفرض إرادتها. لكن هل يمكن لهذا الكيان أن يحافظ على تماسكه وسط العاصفة؟

الحشد ليس كتلة صماء، بل هو فسيفساء من الميليشيات، بعضها مرتبط بإيران برباط الدم، وبعضها الآخر يرى فيها مجرد حليف تكتيكي. ومنذ عام 2018، حين دخل الحشد في دهاليز السياسة الرسمية، أصبح جزءًا من النظام، يحمل مصالح مادية وسلطوية يخشى فقدانها. لكن الأزمة الحقيقية تكمن في ذلك الشرخ الخفي بين قادته وإيران، خاصة بعد اغتيال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس في 2020، الذي كشف هشاشة التحالف القائم على “الولاء المشروط”. فإذا كانت طهران قد تخلت عن رموز مثل سليماني وحسن نصر الله، فما الذي يضمن ألا تتخلى عن الحشد عندما تشتد الأزمات؟

العراق: ساحة الصراع الأخيرة

العراق اليوم يشهد تحولًا جذريًا، ليس فقط على مستوى موازين القوى، بل أيضًا على مستوى الوعي الجمعي. فموجة التطبيع مع الجوار، والمشاريع الاقتصادية الطموحة مثل “طريق التنمية”، تدفع باتجاه عراق أقل اعتمادًا على إيران. لكن طهران لا تزال تملك أوراقًا قوية، أبرزها شبكة العلاقات المتجذرة منذ عقود مع النخب السياسية والعسكرية، فضلًا عن السيطرة على مفاصل الاقتصاد عبر بوابة الطاقة والتهريب.

ومع ذلك، فإن الضغوط الأمريكية تزداد شراسة. فإدارة ترامب، التي تلوح بسيناريو “الحرب المحدودة”، تدفع باتجاه تفكيك الحشد الشعبي عبر دمجه في الجيش العراقي، وهي خطة تبدو مثالية على الورق، لكنها تصطدم بواقع أن الحشد ما يزال ضرورة أمنية في مواجهة تهديدات مثل داعش. هنا يبرز السؤال المحوري: هل يمكن للعراق أن يتحول إلى ساحة مواجهة مباشرة بين واشنطن وطهران؟ الإجابة تكمن في ذلك التوازن الهش الذي يحاول رئيس الوزراء السوداني الحفاظ عليه، بين مطرقة الضغوط الأمريكية وسندان الهيمنة الإيرانية.

إيران: من “دفع الحدود” إلى حافة الهاوية

لطالما تبنت إيران استراتيجية “الحدود الأمامية”، حيث تعتبر دول الجوار امتدادًا لأمنها القومي. لكن اليوم، تتراجع هذه الحدود إلى ما وراء سوريا، بينما تواجه طهران تحديات وجودية في الداخل والخارج. فالعقوبات الاقتصادية، والاحتجاجات الداخلية، وتراجع نفوذ وكلائها في لبنان واليمن، كلها عوامل تدفعها إلى مراجعة حساباتها.

لكن العراق يبقى المعقل الأخير، ففقدانه يعني كشف الحدود الإيرانية أمام تهديدات لا تُحمد عقباها. ولذلك، فإن طهران، رغم كل ضعفها، لن تتخلى عن العراق بسهولة. لكنها أيضًا تدرك أن فرض هيمنة مطلقة أصبح مستحيلًا في ظل الصحوة العراقية المتزايدة ضد التبعية الخارجية.

الخاتمة: المنطقة على مفترق طرق

الصورة التي نراها اليوم هي صورة نظام إقليمي في حالة تشكل دائم. إيران، التي كانت يومًا مهندسة “الهلال الشيعي”، تجد نفسها في موقف الدفاع عن وجودها. والعراق، الذي عانى لعقود من كونه ساحة للصراع، يبحث عن هويته وسط هذا العصف الجيوسياسي.

السؤال الأكبر يبقى: هل ستنجح القوى الإقليمية والدولية في إعادة رسم الخريطة دون إيران؟ أم أن طهران، التي برعت في تحويل الهزائم إلى انتصارات، ستجد طريقة جديدة لفرض نفسها كفاعل مركزي؟ الإجابة، كما هو حال كل شيء في هذه المنطقة المعقدة، ليست بيضاء ولا سوداء، بل هي ظلال من الرمادي تتغير بتغير موازين القوى ودهاء اللاعبين.

بوتان زيباري

السويد

11.04.2025

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *