عندما اندلعت ثورة شباب كوردستان لأول مرة من خلال مظاهراتها فی مدینة السلیمانیة فی كوردستان العراق بتأريخ ١٧ شباط سنة ٢٠١١ كانت عبارة عن حركة إجتماعية عفوية قام بها الشباب الواعي فی مدينة النشاط والتحمس والتضحية “عاصمة الثقافة” فی أقلیم كوردستان العراق، تلك المدينة التي كانت ولاتزال رائدة فی الثقافة و التمدن و التطور و النشاط لكونها من أوائل المدن فی العراق نشأت فيها المدارس والجرائد والمطبوعات فأصبحت منبعا للفكر والفن والإبتكار. لم تكن المظاهرات نتيجة حركة سیاسیة أو نشاط حزبی مسبق، بل ظهرت هذه المبادرة فی بدايتها علی شكل رسائل أو قصائد وأغاني وأناشيد فی شبكات التواصل الإجتماعی أو تجمعات صغيرة فی المقاهي والمنتزهات دون تحزب أو تسییس أو تكليف من أیة جهة سیاسیة لا في الداخل و لا فی الخارج، علی عكس ما كانت الأحزاب السیاسیة المحلية حينذاك تروج لها و تتهمها بتحزب هذه المظاهرات و ميولها السیاسیة و عمالتها لجهات خارجية وذلك لكی تبرر محاربتها فقتلت منها ( ١١) من الشباب المشاركين فی المظاهرات. أما حقيقة الأمر فقد تكونت هذه الحركة الثوریة تدریجیا من مبادرات فردية بین الطبقة الواعیة من الشباب والشابات فی هذه المدينة وذلك تجاوبا مع الثورات المتزامنة بین الشباب فی الكثير من الدول العربية والشرق الأوسط حينذاك التي عم فيها غضب الشباب علی سلطاتها بعد أن ساد اليأس وعدم الثقة بین سلطاتها وجماهيرها نتيجة تزايد البطالة والفقر والإنحصار و تقیید الحريات وقمع الحقوق وطمس المبادرات فی مجالات التطور والتقدم. قام الشباب الواعي فی تلك المظاهرات برفع الشعارات والأناشيد والخطابات المبشرة بآمال النصر علی الفساد والإستبداد والتأخر لذلك سمیت عربيا ب “الربیع العربي” عندما أدت إلی سقوط الأنظمة وهروب الرۆساء و إستیلاء الشباب علی دفة الحكم فی بعض من هذه الدول. هذه الثورات فی الشرق الأوسط كانت قدوة لثورة الشباب فی كوردستان العراق فأصبحت أيضا” مثلها هدفا للأحزاب السیاسیة المسيطرة علی الحكم فی هذه الحكومات مما أدی إلی انتكاسها أو سكونها أو سكوتها ولو إلی حین. وقد نشرت فی سلسلة مقالاتی حول ثورة الشباب تحذيرا بهذا المعنی تحت عنوان “مخاطر تسییس ثورة الشباب” نشرت لأول مرة فی شبكة “صوت كوردستان” بتأريخ ٢٣\ ٤\ ٢٠١١.
بعد ذلك استمرت ثورة شباب كوردستان بمظاهرات هادئة بعيدا عن إستعمال العنف والتحزب، حیث تبینت لها مواقف الأحزاب السیاسیة بوضوح فلم تدخل هذه الثورة الإجتماعیة فی خضم المعارك السیاسیة للأحزاب سواء” كانت فی السلطة أو فی المعارضة. فتوسع نطاق الثورة تدریجیا لیشمل أربیل و دهوك أيضا رغم محاولات أحزاب المعارضة لإحتضانها و مساعي أحزاب السلطة إلی إتهامها بالخيانة أو العنف أو الإرهاب أو ما إلی ذلك. و كان وصول ثورة الشباب إلی دهوك خلال تلك الفترة التي تلت مظاهرات السلیمانیة وأربيل والتي اتسمت بالهدوء والتحفظ نسبة إلی مجتمع دهوك العشائری المتحفظ حیث نجت من الإغتیال والضرب والتنكيل وإن كانت عرضة للإعتقال بإتهامات باطلة أدت إلی سجن قسم منهم و من ثم إطلاق سراحهم فارتفعت شعبيتهم و تم إنتخابهم أعضاء” فی البرلمان. فقد تبين لهؤلاء الشباب بأن لجوءهم إلی السیاسة یۆدی بهم إما إلی الإنضمام إلی الأحزاب السیاسیة فینتهی بهم المقام إلی قبول رأی الأغلبية فی الحزب، وهذا یعنی الإلتزام بأفضلیات ذلك الحزب بدلا من أفضلیاتهم، أو إلی تكوين حزب جديد فيتحول إلی العراك السیاسی التقلیدی لا مجال فیه لوسائل نضال جديدة لكونها تقع فی المعمعة السیاسیة التي تعاني منها الأحزاب الكلاسیكیة فلاتستطيع منافستها ولا مخالفتها. لذلك إستمرت ثورة الشباب فی عملها الثوری الإجتماعی دون تسییس وأثبتت نجاحها فی التوسع تدریجیا والتعمق نوعیا لكی تكسر حواجز الخائات الثلاث (الخوف والخجل والخطیئة ).
أما فی غرب كوردستان “روژئاڤا” المتأثر بشمال كوردستان تأریخیا وثقافيا ومبدئیا فكانت الأرضية ناضجة تماما منذ البداية لإحتضان ثورة الشباب كما هی دون تسییس أو تحزب عند اندلاعها تزامنا مع الثورة السورية ضد نظام الأسد فی سنة ٢٠١١. كان الفرد مهیئا لتنظيم ثورته الإجتماعیة بناء” علی شخصيته السليمة حیث سبق وأن تربی منذ طفولته علی فلسفة “بهرخودان ژیانه = المقاومة هی الحیاة” و تحت شعار “ژن-ژیان-ئازادی = المرأة-الحیاة-الحریة” و قیم حضاریة معاصرة تتسم بالإستقلالیة والثقة بالنفس و قبول الرأي الآخر و التعايش السلمي فی مجتمع دیمقراطی تعددي و الشعور بالمسۆلیة تجاه الشعب والوطن. فكون الفرد أساسا تنظیمیا لإدارة ذاتية ذات اكتفاء ذاتي فی جميع المجالات دون إرتباط سیاسی بأية جهة خارجية وذلك باتخاذ مصلحة الشعب أساسا للتنظيم السیاسی الذی یراعی تقسیم المسۆلیات دون تمییز عنصری وبمساوات عادلة بین المرأة والرجل فی جميع المناصب والمسۆولیات الإدارية والعسكرية. فتكونت بذلك نواة المجتمع الدیموقراطی لكی تصبح نموذجا یقتدی به فی الداخل والخارج. وقد أثبت نموذج روژئاڤا نجاحه فی جمع الأزمات والصراعات الداخلية والخارجية فإستحق منی بتسمیته “عابر الازمات”.
والآن بعد سقوط نظام الأسد ومجئ نظام جديد مؤقت فی دمشق بدعم من تركيا فقد ظهرت تحديات جديدة أمام ‘نموذج روژئاڤا’ من الصعب تجاوزها دون سياسة تتفق مع السلطة المركزية فی دمشق من جهة ومع الأحزاب والأطراف الكوردیة خارج نطاق الإدارة الذاتية من جهة أخرى. تشير الخطوات الأولی إلی نجاح “نموذج روژئاڤا” فی التعامل مع الحكومة المركزية الموقتة من خلال الإتفاق الأول مع رئيس حكومة دمشق فی ١٠\٣\٢٠٢٥ والإتفاق الثاني مع إدارة محافظة حلب فی ١\٤\ ٢٠٢٥ كخطوة عملية أولى فی تنفیذ إتفاقية دمشق یتم بموجبها مشاركة أمن “ئاسایش”، المسیطر علی حی الأشرفیة و شیخ مقصود بأغلبية كوردیة مع الأمن الحكومي فی ثاني أكبر مدينة سورية بعد دمشق وهی مدينة حلب المعروفة تأریخیا ب”ألیپو” والتي تعتبر العاصمة التجارية لسوريا.
تبدأ التحديات الجديدة بالظهور أمام “نموذج روژئاڤا” علی شكل تعليقات سیاسیة فيها تهدیدات مبطنة من جهات عنصرية عربية مناوئة لأیة إدارة لامركزية فی سوريا، وأخرى من أطراف حزبية كوردیة لم ولن تفهم معنى الدیموقراطیة والتعددية والإدارة الذاتیة.بفكیف یمكن لنموذج روژئاڤا الخروج من هذا المأزق دون الوقوع فی مستنقع السياسة التقلیدیة؟ و متی تأتی السیاسة التی تخدم الشعب بدلا من استغلاله؟
٨\ ٤\ ٢٠٢٥