هذا ما حدث في مدينة شتوتكارد الالمانية عام 1976
بعد ان أقلنا سائق الحاخام من محطة القطار حتى مقامه في حي يسكنه طبقة من الاغنياء (الحاخامية مرتبة دينية تؤهله لقيادة المجمع اليهودي ). حين وصولنا لمقامه، بدأ عندي تشابك في المشاعر والخوف والهواجس بالتزامن مع اصراري على تحقيق الفضول في الكشف عن كينونة النفس الحاخامية ورؤيته الدينية للصراع العربي – اليهودي !!!.
هواجسي في الخوف من فخ قد نصب لي تبددت لحظة استقباله لي بكل مودة واحترام. تبادلنا الاحاديث بدءا من تاريخ ارض كنعان مرورا بحضارات ارض الرافدين حتى يوم قيام الحرب العربية – الاسرائيلية عام 1973. شعرت بدهشة الحاخام، والتي بدت على محياه من الكم المتواضع للمعلومات التاريخية التي قمت بسردها. المفاجئة الاخرى التي صدمني بها الحاخام اليهودي عند ذكر خروجه من العراق بعد النكسة عام 1948. دخل في تفصيل ممل عن حياته مع باقي اليهود في العراق وتأكيده على التعايش السلمي مع باقي مكونات الشعب العراقي، وعن الالفة والمودة بين اليهود والعراقيين. كان شعوره بالحنين لأرض الرافدين والرغبة في العودة الى حياة ماقبل النكسة اكثر من واضحة.
والسؤال الذي يدور في ذهن القارئ هو الكيفية التي دفعت بيً لمثل هذا اللقاء غير المسبوق.
بعد حصولي على شهادة الدكتوراه من كلية الاقتصاد العليا في براغ، قررت السفر الى فرانكفورت في ألمانيا لشراء سيارة مرسيدس. استقبلني زميل دراسة مقيم في المانيا. قام باكمال كل اجراءات الصفقة مع الشركة في شتوتكراد. استقليت القطار الذاهب لمدينة صناعة المرسيدس.
في الكابينة رقم 13 كانت امامي فتاة بعمر 25 سنة جالسة وبدت على ملامحها نوع من الاكتئاب وضيق في جلوسي معها بنفس الكابينة. في الستينات والسبعينات لم يكن التدخين ممنوعا. ففي لحظة تقديمي لها بسيجارة روثمان (بحكم اللياقة وقليلا من الحرشة الشرقية). صرخت في وجهي: “ناين” ويعني كلا. تركتها على ماهي عليه لتفاجئني بالالمانية من اين انت ياهذا وعند اي بلدية تعمل كمنظف شوارع او في المطاعم لغسل الاواني او في اي معمل تعمل لتزييت المكائن. كلكم العرب والمسلمون هنا في المانيا تقومون بمثل هذه الاعمال القذرة. تمالكت اعصابي وحاولت ان اكون اكثر صبرا وتماسكا. حاورتها بكل هدوء قائلا: لست هنا في المانيا للعمل ولكن لشراء سيارة مرسيدس تنتظرني غدا في شتوتكارد. كما انا لست بعامل وإن كان لي الشرف بالقيام بمثل هذه الاعمال “القذرة” ولكنني حامل الدكتوراه عائدا الى وطني ارض بابل واشور وسومر. ساد الصمت بيننا لفترة وجيزة لتفاجئني: لماذا ترغبون برمينا الى البحر. وهنا تأكد لي بانها يهودية تعيش في المانيا، وهو الامر الذي ادهشني كثيرا حيث لم احاور يهوديا او يهودية طيلة حياتي. بدأت بشرح الظروف التي ادت بياسر عرفات بمثل هذا التصريح. مسترسلا في تقديم صورة المعاناة والعنف والاضطهاد والحصار ضد الفلسطينيين، وبناء المستوطنات على ارض ليست ارضهم، وان مثل الواقع يذكرني بما قام بها النازيون في الهولوكست ضد اليهود. كما اعتقد بانك ضد القيام بمثل هذه الجرائم بحق اليهود وهذا ينطبق على واقع الفلسطينيين اليوم. فالعرب كما اليهود يرغبون في العيش بسلام ووئام في ظل قيام دولتين تلتزم بالمواثيق الدولية في احترام حقوق الانسان وعدم الاعتداء على الاخر.
عند وصولنا شتوتكارت سألتني عن اقامتي لهذه الليلة. الجواب كا ن واضحا… في الفندق لغاية الغد لاستلام سيارتي. وهنا اقترحت اليهودية، التي تغيرت بدرجة 80%، ان اذهب الى محل اقامتها كي اتعرف على والدها الحاخام إن لم يكن عندي مانع.
والدرس من هذه الواقعة… هل اسرائيل مؤمنة باقامة دولتين وبالتعايش السلمي بين الشعبين ام أن حلم اليهود باقامة اسرائيل الكبرى من النيل الى الفرات هو الحاكم!!!. وهل العرب على قدر من المسؤولية وعلى مستوى من الدبلوماسية الايجابية في الاقناع للحفاظ على مصالحهم القومية؟؟؟.