كوردستان ليست خريطة معلقة على الجدار، ولا نشيدًا قوميًّا يُتلى في المناسبات، ولا لهجة تُنطق في وادٍ دون وادٍ آخر، كوردستان هي وحدة الوجع، وحدة الدم، وحدة الجبل الذي احتضن الثائر، ووحدة الأم التي ودّعت أبناءها في جميع جهاتها الأربع دون أن تسأل، من أي جزء أنتم؟
لكنّ المأساة الكبرى لم تكن فقط في احتلال الأرض، بل فيما هو أعمق، احتلال الوعي.
لقد نجح المحتل في زرع الشرخ في داخلنا، حين فصل بين جغرافيا كوردستان، لم يكتفِ بالسلاح، بل قسّم اللغة، والعلم، والمفردة، بل وأقنع البعض منّا أن هذا الانقسام “واقع يجب احترامه”، فإذا بنا لا ندافع فقط عن هذا الفصل، بل نحميه ونتمسّك به كما لو كان جزءًا من قدرنا.
كيف وصلنا إلى هذه الهاوية؟
وكيف أصبح القادم من باكور وباشور غريبًا في روجآفا؟ ومن روجآفا مهاجرا سوري في باشور؟
وكيف يُنظر إلى الكوردي من روجهلات كمجرد “ضيف ثقيل الظل”؟
هذه ليست زلات لغوية، ولا إدراك سياسي، بل جرائم وعي.
هي بالضبط ما أراده المحتل، وما سعى إلى ترسيخه في أذهاننا، أن نتعامل مع بعضنا كغرباء، وأن نعيد إنتاج تقسيمه اللغوي والسياسي بملء إرادتنا.
لا يا سادة، من المنطقي، بل من الواجب السياسي، أن نحاور المحتلين ضمن ضرورات التفاوض والمواجهة، لكن أن نحاور بعضنا بذات اللغة التي نخاطب بها أنظمة الاحتلال؟ تلك هي الجريمة الأخطر لأنها لا تفاوض العدو، بل تنسخ منطقه وتُلبسه ملامحنا.
كوردستان ليست مجرد جغرافيا ممزقة، بل ذاكرة واحدة تعرّضت لمحاولة اقتلاع متعمدة، ليست أربعة أجزاء تقف على خرائط متباعدة، بل كيان حي، كان يومًا جسدًا متصلًا، ينهض وينكسر ويتنفس بنداء واحد، لكنها اليوم، تُدار كأنها فسيفساء هشة، لا تربطها إلا الذكرى، بينما الواقع يعيد إنتاج فواصل العدو، ولكن هذه المرة، بأيدٍ كوردية.
ليست النكبة دائمًا فعلًا من خارجنا، فثمة نكبات – هزائم – سقطات ناعمة تولد في داخل الوعي، حين نتماهى مع حدود المحتل، ونقتنع بأن روجآفا ليست باشور، وأن روجهلات ليست باكور، وأن من يأتي من هناك هو غريب، أو “ضيف” علينا نحن هنا، حينها، تصبح الكارثة مزدوجة، احتلال الأرض، واحتلال الذاكرة.
إن كل من يدافع عن الفصل بين أبناء كوردستان، أكان على أسس اللهجات، أو الانتماءات الحزبية، أو التعاطف مع دول الاحتلال، يكرّس، بقصد أو دون قصد، ما أراد الغزاة ترسيخه، أن ننسى بعضنا، ونخاف من بعضنا، ونتعامل مع الكوردي كأنه الآخر لا الذات، ولعل الأخطر من ذلك، أن هذه العقلية أصبحت جزءًا من الخطاب السياسي، وتسرّبت إلى وعي الأحزاب، وتحوّلت إلى ما يشبه القاعدة في الحراك الثقافي، فتلقفها الأدباء والشعراء والنشطاء، بل وردّدوها بملء أصواتهم وهم يزعمون الدفاع عن كوردستان الكبرى.
أي كوردستان كبرى هذه التي تُفكّك يومًا بعد يوم على مستوى التعامل والتفكير والقرار؟ ما قيمة المطالبة بكوردستان موحدة بينما نُمارس، في خلافاتنا الحزبية، وفي سياساتنا اليومية، وفي مفرداتنا حتى، فعل الانفصال والتقاطع والتخوين المتبادل؟ كيف نطالب بوطن محرر بينما نمنع مقاتلًا من جزء آخر من كوردستان من المساهمة في الدفاع عنها؟ من يقول إن حزبًا معيّنًا “غريب” في هذه الجهة أو تلك، كمن يقول إن البيشمركة لا يحق لهم الدفاع عن شمال كوردستان إن قامت لهم هناك دولة، وكأننا نؤسس لدويلات داخل الجسد الواحد، ونحوّل الشعب إلى سكان حدود، لا أبناء أرض واحدة.
إن الكوردي حين يدافع عن شقيقه الكوردي، لا يُمارس تضامنًا عابرًا، بل يُعبّر عن وحدة وجود مهددة. فحين يُمنع هذا أو يُقصى ذاك بحجة الجغرافيا أو الولاء السياسي، فإننا لا نُدافع عن هويتنا، بل نُسلمها للمحتل موقّعة ومُقسّمة على مقاس مصالحه. المحتل نجح حين أقنعنا أن كوردستان ليست لنا جميعًا، بل لكلٍ جزء، ولكل جزء سيادة، ولكل سيادة أعلام، ولهجات، ونُظم أمنية، وأعداء مختلفون، بل وأصدقاء مختلفون.
وهذا الانقسام، إن لم يُواجَه بالحقيقة، سيقودنا إلى لحظة نُفيق فيها لنكتشف أننا لم نعد نعيش في كوردستان، بل في أشباه دول كوردية، متناحرة، متنافسة، يمرّ الكوردي فيها من نقطة تفتيش إلى أخرى، وكأنه يعبر بين أعداء لا إخوة. لا عدو داخلي أخطر من منطق يرى في الاختلاف جريمة، وفي الوحدة تهديدًا. وكل من يؤسس لخطاب “الداخل والخارج”، “نحن وهم”، في الإطار الكوردي، هو يضع حجرًا في جدار التقسيم القادم.
فلتكن صريحة هذه الكلمة: إن من يطالب بعودة الكورد إلى “أجزائهم”، أو يربط الشرعية السياسية بالمنشأ الجغرافي، يرتكب جريمة فكرية لا تقل فداحة عن خيانة الأرض نفسها. إنه يزرع بذور انقسام ستُثمر لاحقًا دولًا كوردية متناحرة، لا رابط بينها إلا نشيد لا يُسمع، وخريطة لا تُحترم.
لا فرق بين من يمزق الأرض بالسيف، ومن يمزق الوعي بالكلمة. الأول محتل واضح، والثاني شريك ناعم. لذلك فإن السكوت عن هذه المنهجية خيانة صامتة، وتبريرها خضوع مغلّف، وترويجها مشاركة في إنتاج مستقبل سيُلعن فيه من كتب، ومن صمت، ومن دافع.
ولست، من موقعي، مستعدًا لأن أقبل أو أهادن مشروعًا سياسيًا، أو ثقافيًا، أو حتى إداريًا، يقوم على تكريس الانقسام الكوردي، أو يعيد إنتاج الحدود بين الأحزاب وكأنها حدود بين شعوب. سأكون أول المعارضين، ليس لأي دولة كورديّة، بل لأي دويلة تنبني على رفض الآخر الكوردي، على اجتثاث المقاتل لأنه من “جهة أخرى”، أو على محاسبة المناضل لأنه لا ينتمي إلى “الطرف الصحيح”. فكما أرفض اليوم توسيع الشرخ بين القوى السياسية الكوردية، أرفض غدًا أن تُبنى كوردستان على رمال الحزبية والجهوية، وأن نُضحي بحلمنا الجمعي من أجل انتصارات صغيرة، ضيقة، لا تعني شيئًا أمام جرح كوردستان الأكبر.
كوردستان لن تتوحّد بالخطب، بل بالوعي. لن تتشكّل بالحدود، بل بانهيارها. لن تُصان بالرايات، بل برفض أن تتحوّل إلى “شعوب كوردية متجاورة”. من يزرع الفصل بيننا اليوم، سيحصد الحقد غدًا. ومن يغضّ النظر عن التقسيم تحت أي مسمّى، سيجد نفسه يومًا غريبًا في وطنه، يتوسل المرور من جزء إلى آخر وكأنه لاجئ في أرضه.
فاحذروا هذا المسار، ولا تجعلوا من الوطن بوابات عبور، ومن الكوردي سؤالًا أمنيًا. كوردستان لا تسأل من أين أتيت، بل ماذا تفعل هنا.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
13/4/2025م
يا استاذ الكريم بل لومو أنفسكم ولا تلومو المستعمرين ولا المحتلين، الكورد عندما يكونوا اشد قومين و حبهم لوطن و لارض و يتمسكو بلغتهم و هنا لا المستعمرين ولا المحتلين يقسرو ان يمنعو الكورد من لغتهم و جورافيتهم و لكن السبب هي القادة و احزاب الكورد، و ماشاء الله يوجد الالف الأحزان الكورد و كلهم ينادون باخوية اعربية و تركيا و فارسيه و اخويا الشعوب و الديمقراطية و يطالبون من المستعمرين و المحتلين ان يعترفون بهم و أكثر من هذا و فكيف يتحرر كردستان يا استاذ الكريم