لطالما شكلت قضية فلسطين محوراً مركزياً في الخطاب السياسي الشيعي، وقدم الشيعة على مدى عقود دعمًا معنوياً ومادياً وعسكرياً لهذه القضية، انطلاقاً من اعتبارها قضية إسلامية جامعة.
غير أن هذا الموقف يواجه اليوم مفارقة صارخة، ففي الوقت الذي تتزايد فيه التضحيات الشيعية، يزداد العداء العربي الرسمي والشعبي للشيعة، بل وتحوّلت القضية الفلسطينية نفسها إلى أداةٍ لضرب المكون الشيعي في المنطقة.
تاريخيا يستند الموقف الشيعي، إلى مرجعيات دينية وسياسية رفيعة المستوى، فقد أفتى مراجع كبار أمثال السيد محسن الحكيم والسيد محمد باقر الصدر، والإمام الخميني وآخرين بوجوب نصرة فلسطين، معتبرين إياها قضيةً إسلاميةً مصيرية.
كما تجسد هذا الموقف عملياً عبر أدوار عسكرية بارزة، أبرزها تأسيس حزب الله في لبنان الذي تحوّل إلى قوة ردع رئيسية ضد إسرائيل، فضلاً عن الدعم الإيراني المستمر لفصائل فلسطينية عديدة.
حتى ان إيران الشيعية كادت ان تخوض صراعا عسكريا مباشرا مع إسرائيل بسبب القضية الفلسطينية، وما زال التوتر (حتى كتابة هذا المقال) يحكم علاقتها بالغرب عموما جراء دعمها لفلسطين.
لكننا أمام معادلةٍ غايةٍ في الغرابة، فالشيعة الذين لا تتجاوز نسبتهم 15% من مجموع المسلمين السنة في العالم، ويتمركز أغلبهم في دولٍ تعاني من ضعفٍ اقتصادي وسياسي، يتحملون عبء قضيةٍ تحتاج إلى إمكاناتٍ هائلةٍ تتجاوز قدرات أي أقلية.
والأمرُّ من ذلك أن معظم السنة حول العالم يتناسون بل يتجاهلون عمدا التضحيات الشيعية على الأرض وآلاف الشهداء الشيعة الذين سقطوا في مواجهاتٍ مباشرةٍ مع إسرائيل.
حزب الله وحده خسر أكثر من 2000 مقاتل في معركة واحدة في 2006، بينما قدم متطوعون عراقيون ولبنانيون وإيرانيون تضحياتٍ جساماً.
وظلت الأغلبية السنية التي تملك المقومات البشرية والاقتصادية والعسكرية الكافية، متنصلة او متفرجة في احسن الأحوال، وإلا فإنها طالما اصطفت مع إسرائيل وتمنى اغلبها لو ان الشيعة يُزالون من الوجود وتضربهم أمريكا سياسيا واقتصاديا بل حتى وجوديا.
ويبدو ذلك جليا في اتهام الأنظمة العربية، الشيعةَ بالتواطؤ مع إيران، وهي نفسها تقيم ودون خجل علاقاتٍ علنيةً مع إسرائيل.
وبينما يُشنّع على الحشد الشعبي العراقي بحجة قربه من (الفرس الصفويين أو الرافضة)، تقيم دول عربية علاقات دبلوماسية واقتصادية مع الكيان الصهيوني!
وبينما يتم اتهام الحوثيين بالإرهاب، تتعاون بعض الحكومات العربية علناً مع إسرائيل في ضرب مواقعهم.
هذه الازدواجية تكشف أن “القضية الفلسطينية” في الخطاب الرسمي العربي لم تعد سوى ورقةً سياسيةً تُستخدم وقت الحاجة، ثم تُهمل عندما تتعارض مع المصالح.
في ظل هذه المعطيات، بات لزاماً على الشيعة إجراء مراجعةٍ شاملةٍ لموقفهم. فالقضية التي تتحول إلى ذريعةٍ لاضطهادهم، وتُستخدم لتبرير العداء ضدهم، لا يمكن أن تبقى أولويةً لهم. خاصةً وأن الأغلبية السنية التي تملك كل المقومات، ترفض حتى الإقرار بالتضحيات الشيعية، ناهيك عن تقديرها.
الخيار الأكثر عقلانيةً اليوم يتمثل في:
1- وقف الاستنزاف في معركةٍ تُدار ضد الشيعة أكثر مما تُدار من أجل فلسطين.
2- التركيز على بناء تحالفاتٍ دوليةٍ تحمي الوجود الشيعي من التهديدات الوجودية.
3- فضح الازدواجية الغربية والعربية التي تدعم إسرائيل ثم تتهم الشيعة بالإرهاب.
اذ لم يعد من المنطقي أن تظل القضية الفلسطينية “قضية شيعية” بينما يحولها العرب السنة حول العالم إلى سيفٍ مسلطٍ على رقاب الشيعة.
فإما أن تتحول إلى قضية جامعة فعلاً، يتصدى لها كل المسلمين، أو أن يترك الشيعةُ، الأغلبيةَ السنية تتحمل مسؤولياتها كاملةً.
فالتضحيات التي لا يُعترف بها، ولا تُقابل إلا بالجحود والاتهامات، تعد انتحاراً سياسياً، وقد خسر المسلمون السنة في موقفهم المناهض للشيعة، المقاتل الشيعي وهو صنف فريد من الرجال تتجسد فيه كل معاني وقيم الغيرة والفروسية والبسالة.