كان تاسيس رابطة الدول المستقلة بديلا للاتحاد السوفياتي، الذي انهار عام 1991، كان بمثابة الانطلاقة الرئيسية لهيمنة الولايات المتحدة الامريكية كقطب اوحد في إدارة مجريات الاحداث في العالم. عندها، بلغت غطرسة امريكا وتنمرها على دول العالم اوجها في عهد ترامب الاول عام 2018 والثاني عام 2025.
ترامب، برأس فارغ سياسيا، يطمح الى قيام امبراطورية مالية لامريكا ” امريكا أولا ” ليدخل التاريخ من اوسع ابوابها كأول رئيس لم يشهد الشعب الامريكي له مثيلا. وعندما نقول ان ترامب لايملك إلا راسا فارغا والرجوع الى قراءة اجراءاته وقراراته السياسية والتجارية ضد اكثر من 60 دولة، وتراجعه المستمر في تنفيذ ما يقرره، هوخير دليل على قولنا المذكور. كما يمكن القول، ان من يملك مثل هذ الرأس الفارغ سياسيا لابد ان ينهار كامل طموحه في قيادة العالم كقطب واحد يسير بالعالم كما يرسم ويخطط له رأسه الفارغ سياسيا الملئ بفقاعات هستيرية جيوسياسية تكتيكيا وجيواقتصادية استراتجيا. ومن يملك مثل هذا الرأس الفارغ لابد ان يصطدم بواقع غير ما كان يحسب له بسبب اللاخبرة في قراءة التاريخ.
وكما ذكر الكثير من المحللين فإن المعركة التجارية التى أشعلها ترامب ضد العالم، وفى القلب منه الصين، فرصة ذهبية للتخلص من الهيمنة الأمريكية على العالم، ووضع حد لمحاولات ابتزاز الدول واعتبارها بقرة حلوبا، لا بد أن تتدفق ألبانها للبلاد التى تأسست على أشلاء الملايين من الهنود الحمر، لذا، على الدول الـ60 التى يداعبها ترامب ويطالبها بالتفاوض فى التعريفة الجمركية، أن تدعم الموقف الصلد للصين، وكيف تعمل على خلخلة الهيمنة الأمريكية، ووضع حد لغطرستها، ووضع في الاعتبار أن الولايات المتحدة الأمريكية مرت بالظروف ذاتها منذ 95 سنة تقريبا، عندما أقر الرئيس الأمريكى الأسبق، هربرت هوفر، قانون التعريفة الجمركية وذلك سنة 1930 والمعروف باسم «تعريفة سموت – هاولى»، نسبة السيناتور ريد سموت وهاولى، والتي تضمنت رفع الرسوم الجمركية الأمريكية على أكثر من 20 ألف سلعة مستوردة، والرسوم تراوحت ما بين 40% و60% وكانت بمثابة الحرب التجارية ضد كل دول العالم. ورغم تحذير واعتراض أكثر من 1000 خبير اقتصادى، ورجل أعمال، إلا أن الرئيس هربرت هوفر – الذى كان جمهورياً بالمناسبة – أصر، وأقر القانون، ما أدى إلى انتفاضة الدول ضد أمريكا، وفرضت رسوما مضادة، فزادت البطالة، وتراجعت الصادرات، وكانت النتيجة سقوط هوفر فى الانتخابات، بهزيمة منكرة.
مرة أخري نذكر ان راس ترامب الفارغ ومعه زمرة من الجمهوريين عديمي الخبرة بالعلاقات الدولية لم ولن يقرأوا التاريخ، ولايمكن ان يتذكروا ماذا فعل « قانون سموت – هاولى » سنة 1930 وتأثيراته البالغة على الاقتصاد الأمريكى، وهو ما أدى إلى تفشى البطالة وارتفاع فى مؤشرات التضخم، وكساد كبير، والنتيجة غضب شعبى كبير أدى إلى إسقاط الرئيس الأمريكى حينذاك، هربرت هوفر، أمام فرانكلين روزفلت، كما تم إقصاء سموت وهاولى، وحل قانون روزفلت لاتفاقيات التجارة المتبادلة لعام 1934 محل قانون :سموت – هاولى»، ما سمح للرئيس بالتفاوض على تخفيض التعريفات الجمركية مع الدول المشاركة فى الحرب بما فيها كندا.
في السياق ذاته لايمكن الحد من سقف القلق المتنامي لدى شعوب العالم من هذا التهور السياسي – التجاري لترامب في علاقاته الدولية ( الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ، ومنظمة الصحة العالمية، وفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، وتقديم بعض أعضاء مجلسي النواب والشيوخ مشروع قرار في الكونغرس الأمريكي يدعو إلى الانسحاب الكامل من الأمم المتحدة، ووقف التمويل الأمريكي لها، الذي يزيد على 35 مليار دولار سنويًّا). وقد بصل الامر بترامب الانسحاب العسكري من اوريا وتقكيك الحلف الاطلسي. الامر الذي سيفسح المجال لكل من الصين وروسيا لملء الفراغ الامريكي بعد استعدادهما لتقديم مساعدات جديدة للدول النامية. كما ان فرض ترمب تعريفات جمركية على دول كثيرة ستدفع بها الى البحث عن شركاء تجاريين آخرين والصين هي المرشحة ان تكون الشريك التجاري الاول لباقي الاقاليم. خاصة بعد أن أصبحت الصين بالفعل الشريك التجاري الأول لمنطقة الخليج، وإفريقيا، وأمريكا اللاتينية، فقرارات الرئيس ترمب سوف تصب في النهاية لمصلحة العلاقات التجارية الصينية الأوروبية أيضا.
وعلى الصعيد العسكري نجد ان امريكا غير مهتمة بالقواعد العسكرية او بالتحالفات العسكرية الخارجية لذا على اوربا البحث عن بدائل عسكربة للقوات الامريكية ( 100 ألف جندي في اوربا ) وإتاحة السلاح النووي الفرنسي كبديل لحماية اوربا. الحالة ذاتها تنطبق على تواجد الجيش الامريكي في جنوب أسيا وتحالفاتها مع اليابان واستراليا .
لقد اشار وزير الخارجية مارك روبيو في حديثه أمام مجلس الشيوخ في جلسة تثبيته في منصبه الى أمر بذات الاهمية عندما وصف النظام الليبرالي الأمريكي بأنه نظام يتقادم كل يوم، وهو ما يعني أن صورة الولايات المتحدة كقائد وزعيم للعالم الليبرالي تتراجع، بعد أن كانت في قمة التوهج بعد تفكك الاتحاد السوفيتي السابق.
كما لايمكن غض الطرف عن التحالفات الاقتصادية الحديثة كمنظمة شنعهاي وبريكس وغيرها التي اخذت مواقع بالغة الاهمية في العلاقات الاقتصادية الدولية وكلاعب تجاري تستحوذ على اكثر من 40% من التجارة العالمية فضلا عن حجم السكان الهائل فيها.
ان ما تم ذكره اعلاه وغيره لمؤشرات واضحة المعالم لظهور نظام عالمي جديد بعيدا عن القطبية الاحادية، وقد نشهد خلال العقود القادمة تفكك الولايات المتحدة الامريكية وانهيارها كما انهار الاتحاد السوفييتي.