القضية الكردية…القصة باختصار – د. قبات شيخ نواف الجافي

 

بادىْ ذي بدء، ليس من السهل الكتابة عن القضية الكردية أو التاريخ الكردي بطريقة علمية أكاديمية وخاصة في حقبة التاريخ القديم وعصور ما قبل التاريخ، نظرا لقلة الأدلة والإشكاليات المنهجية في التعامل مع النصوص الآثارية القديمة، وخاصة أذا ما علمنا بأن مدلول لفظة كرد أو كردي تغير وتبدل أكثر من مرة وظهرت في سياقات زمنية مختلفة. بعكس فترات التاريخ الوسيط والحديث، حيث ظهر مفهوم كرد وأسم كردستان في العديد من النصوص والمصادر التاريخية الإسلامية وغيرها. لقد كتبت مقالة سابقا بعنوان: الكوردولوجي.. تحديات وآمال في موقع أراجيك-تعليم حيث أشرت إلى هذه الجزئية بشيء من التفصيل. تعد القضية أو المسألة الكردية واحدة من أهم القضايا الرئيسية التي فرضت وجودها في العديد من الدول في منطقة الشرق الأوسط وهي التي تصنف ضمن المشكلات المستديمة في تاريخ المنطقة فالصراع الكردي داخل الدول الأربعة تركيا العراق وإيران وسورية أضحى يندرج ضمن أقدم الصراعات وأطولها مدة (تليها مباشرة القضية الفلسطينية)، وهذا أثار العديد من الإشكاليات والنقاشات حول هذه المسألة بالذات، ودفع بالعديد من الباحثين والمهتمين للبحث عن الأصول التاريخية والجغرافية للكرد. وسنركز في هذه المقالة عن الكرد في سوريا التاريخية أكثر من الأجزاء الأخرى نظرا لطبيعة المرحلة الحالية.

 

تمهيد تاريخي

تتفق العديد إن لم نقل أغلب الدراسات التاريخية والأنثروبولوجية، على أن الأكراد يشكلون قومية لها خصائصها التي تميزها عن غيرها من القوميات الأخرى، سواء من ناحية الأصول العرقية أو من ناحية الدين واللغة وحتى من جانبها التاريخي، ومع ذلك فإن دراسة الشؤون الكردية تعد من الدراسات الصعبة، إذ يسودها أحيانا نوع من الغموض، وفي الكثير من الأحيان التضارب في الآراء والاتجاهات، (أنظر مقالي: الكوردولوجي.. تحديات وآمال في موقع أراجيك-تعليم). يختلف الباحثون والمختصون في تحديد أصل ومنشأ الأكراد، ويرى البعض بأن هذا الاختلاف يرجع إلى كون موضوع الأكراد أو الكرد، لم يدرس بصفة كافية ووافية حتى الآن كما يشير حامد عيسى في كتابه القضية الكردية في تركيا. القاهرة, 2002.  على أية حال، يجب الأقرار بإن المسألة الكردية تستمد أهميتها وأساسها من طبيعة الشعب الكردي ذاته، والذي يتمتع بطابع عرقي وخصائص لغوية وثقافية يميزه عن بقية القوميات المتواجدة في المنطقة من عرب وفرس وأتراك بشكل خاص، إلا أنه يتعايش معها، على اعتبار أن المجموعة الكردية تشترك مع هذه القوميات في العديد من الروابط التاريخية، الدينية والثقافية.

حقيقة توجد عدة أراء في هذا الصدد (أصل الكرد)، ولكن أهمها تتفق على انهم من أصل آري، أي انهم من الميديين وهم مجموعة من القبائل الإيرانية حيث يعتبرون السكان الاصليون لجبال آسيا الصغرى وسلاسل جبال زاغروس، وبالتالي ينحدرون من الشعوب الهندو- أوربية. وحول عدد الاكراد، المتفق عليه هو أن عددهم لا يقل عن الأربعين مليونا اجمالا (قد تختلف الإحصائيات- لا توجد احصائيات دقيقة). أن نظرية الأصول الميدية للكرد تكتسب يوما بعد آخر ذخرا علميا أضافيا. وفي هذا السياق يرجع المؤرخ المسعودي أصل الأكراد، إلى القبائل الإيرانية التي لجأت إلى الجبال “هربا” من اضطهاد الملك الإيراني الشيرازي (نسبة الى شيراز بلاد الميديين آنذاك -الضحاك- كاوا الحداد). في حين يرى توفيق وهبي “الكرد هم أحفاد الميديين أو الماد، وذلك بالاستناد إلى ما يراه بعض المؤرخين من كون الأكراد الحاليين، كانوا يقطنون في الماضي بالمنطقة التي كانت تسمى ببلاد ميديا، ولذلك فهم أحفاد الميديين الذين قطنوا بلاد فارس سنة 836 قبل الميلاد”. القضية الكردية في تركيا. القاهرة, 2002. أما بخصوص المصادر التاريخية الإسلامية فنذكر على عجالة مدلول لفظ كلمة كردستان، فقد عرفت هذه المنطقة باسم كردستان لأول مرة في القرن الثاني عشر الميلادي في عهد السلاجقة، وبالتحديد في عهد السلطان سنجر السلجوقي (1117- 1156م)، عندما اقتطع هذا القسم من إقليم الجبال، وسماه كردستان وولي عليه ابن أخيه سليمان شاه. حتى أنه شاع بين أوساط بعض المؤرخين والباحثين، بأن المؤرخ والبلداني المعروف حمد الله المستوفي القزويني (1281-1349)، بأنه أول من أورد اسم كردستان في كتابه” نزهة القلوب “. وهكذا يكون المستوفي قد أستوفى مدلول لفظة كردستان حقها التاريخي.

لقد ظهرت كما أشرنا العديد من النظريات التي حاولت تحديد أصل الأكراد، أهمها تلك التي طرحها لأول مرة العالم الروسي فلاديمير مينورسكي في كتابه “الكرد ملاحظات وانطباعات عام 1915″. يرى مينورسكي بأن الأكراد هم من أصل آري، قدموا إلى منطقة كردستان منذ عدة قرون ترجع إلى ما قبل الميلاد، كما أكد في دراسة أخرى، بأن الأكراد هم أحفاد الميديين اللذين شكلوا في السابق إلى جانب الفارسيين مجموعتين من القبائل الإيرانية التي يرجع تاريخها إلى النصف الثاني من القرن التاسع ق.م. وهناك احتمال كبير حسب مينورسكي، بأن يكون الشعب الكردي قد هاجر في الأصل من شرقي إيران والهضبة الإيرانية في الشرق نحو الغرب، أو مناطقهم الحالية أي كردستان ومكثوا بها منذ فجر التاريخ، ثم امتزجوا مع مرور الزمن مع عناصر أخرى قدمت إلى المنطقة، ليكون الأكراد بذلك مزيجا من القبائل العديدة المتنقلة. وفي النهاية نختم برأي العلامة المفضال محمد أمين زكي (1880-1948) في كتابه الهام المهم “خلاصة تاريخ الكرد وكردستان” حيث يرى بأن الكرد نشؤا في منطقتين, حيث كانوا يقطنون كردستان منذ فجر التاريخ “ويسميهم” شعوب جبال زاكروس “وحسب رأي المؤرخ  فأن شعوب لولو , كورتى , كوتى , جوتى , جودى كاساى ,سوبارى , خالدى , ميتانى , هورى أو حورى هم الأصل القديم للشعب الكردي وكذلك يرى بأن المنطقة الثانية هي طبقة الشعوب الهندو- أوروبية التي هاجرت الى كردستان في القرن العاشر قبل الميلاد واستوطنت كردستان مع شعوبها الاصلية وهم” الميديين والكاردوخيين “امتزجت مع شعوبها الاصلية ليشكلا معا الآمة الكردية.

 

الكرد في سوريا

تتمركز المنطقة الكردية في سوريا في الشمال، كما أنها تمتد في الجنوب من جبل سنجار في الشرق إلى جبل كرداغ – جبل الأكراد. عموما، فإن أكراد سوريا يتمركزون بصفة خاصة في كل من جبل الأكراد شرق نهر الفرات، شمال مدينة حلب ودمشق، اللاذقية، حمص ومنطقة الجزيرة ما بين طرفي نهر الخابور مع رأس العين. وبذلك فهم تابعون إداريا إلى ست محافظات إدارية. ويشكلون نسبة 15% الى 20% من سكان سوريا. أن بدايات الفكر أو الوعي القومي لدى الكرد بشكل عام ظهر بشكل بدائي من خلال السياق التاريخي لنتائج معركة جالديران عام 1515 بين إيران وتركيا، حيث أخضعت ووزعت عمليا العديد من المناطق والإمارات الكردية بين الدولتين الصفوية والعثمانية (لازاريف. تاريخ كردستان, 1999). وقد تطرق المؤرخ الكردي شرفخان البدليسي (1543-1603 م- الأب المؤسس للتاريخ الكردي)، في كتابه القيم شرفنامه الى نشأة الأمارات الكردية بشكل مفصل. وكذلك ظهر الوعي القومي من خلال كتابات ونصوص الأديب الكردي الشهير أحمد خاني (1650-1707) صاحب الرائعة الأدبية “مم وزين” بشكل أكثر منظما ونضجا. وفي هذا السياق يجب ذكر إحدى أهم المحطات التاريخية في هذه المرحلة، الا وهي حركة بدرخان باشا (الحركة البدرخانيه) الذي تولى الحكم في جزيرة بوطان عام 1812 م، وانتفض في وجه السلطة العثمانية. من المعروف، أن خلال مدة الخلافة العثمانية لم يكن هناك ما يعرف بالمشكلة الكردية، وذلك بسبب التفاف الأكراد حول الخلافة الإسلامية العثمانية، ولكن بعد الهزيمة العثمانية برزت القضية الكردية وبدأت تأخذ حيزا كبيرا في جميع المعاهدات والاتفاقيات التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، وقد أثيرت المشكلة الكردية في اتفاقية سيفر عام 1920 م بين تركيا والحلفاء، لكن مصطفى أتاتورك تمكن من استبدال اتفاقية سيفر بمعاهدة لوزان عام 1923التي تجاهلت حقوق الأكراد المنصوص عليها في اتفاقية سيفر.

أما في السياق التاريخي السوري، فقد تشكل الوعي القومي الكردي السوري منذ بداية العشرينات من القرن الماضي على شكل جمعيات ونوادي ثقافية واجتماعية، حيث ظهرت حركة خويبون بشكل واسع كنواة للفكر القومي الكردي السوري بجانبيه السياسي والثقافي، منذ أن أسست مؤتمرها الأول في القامشلي-قامشلو (نسبة الى نبات القاميش-القصب- على ضفاف نهر جغجغ, وهي مدينة حديثة نسبيا أسسها الفرنسيين  في العشرينيات من القرن الماضي لتصبح مركزا إداريا بعد ترسيم الحدود بين تركيا وسوريا), عام 1928 ميلادي، هذه الحركة التي امتدت الى أجزاء أخرى من تركيا والعراق. (أنظر محمود الدرة، القضية الكردية. بيروت 1996). أن الأسباب التي أدت الى نمو الوعي القومي الكردي عديدة ولكن نختصرها كالتالي: عدم الاعتراف بوجود حقوق الأكراد السوريين في وثائق التأسيس السوري الأول وفي بروتكولات عهد الانتداب الفرنسي (على الكرد المتشدقين بصياح وصداح الديك الفرنسي ان يلتفتوا إلى هذه الواقعة التاريخية وإلى مهزلة حامية الأقليات أيضا)، ودستور الجمهورية السورية بعد الاستقلال، ولا حتى في برامج الأحزاب السياسية السورية من قومية وإسلامية. أما بخصوص فرنسا، فقد بدأ العمل الكردي العام داخل سورية ابتداء من مواجهة الاستعمار الفرنسي من خلال انتفاضة بياندور 1923 وعامودا 1937 ومساهمة التيارات الكردية عام 1929 م في الجبهة الوطنية المناهضة للاستعمار. ولا ننسى أيضا الدور الفرنسي في أخفاق ثورة الشيخ سعيد بيران عام 1925 حيث كانت القوات التركية تتنقل من أنقرة الى ديار بكر عبر سوريا الواقعة تحت الانتداب الفرنسي آنذاك (أنظر إسماعيل بيشكجي، كردستان مستعمرة دولية. السويد, 1988).

بعد ظهور حركة خويبون تطور الفكر القومي الكردي السوري، حيث قام الناشط عثمان صبري (عضو سابق في حركة خويبون) بتأسيس الحزب الديمقراطي الكردي بدمشق 1957 حيث بدأ الفكر القومي الكردي السوري بالعمل ضمن تنظيم سياسي حزبي ونما بتفاعل المجتمع الكردي السوري مع عودة الملا مصطفى البارزاني إلى العراق عام 1959. لقد كان للحزب تأثيرا كبيرا على الحياة الجماهيرية الكردية السورية وعلى التحولات البارزة في مسيرتها السياسية والوطنية في إطار سورية ديمقراطية موحدة. كذلك يجب الاشارة إلى احصاء عام 1962 الجائر الذي أجج الشعور القومي أكثر بعد أن جرد الكثير من السوريين من جنسيتهم السورية. أضافة الى ذلك، كان لظهور حزب العمال الكردستاني وبدئه الكفاح المسلح عام 1985, وكذلك نشأة حكومة أقليم كردستان 1992, تأثيرا مباشرا على تطور الحركة الكردية السورية.

الوضع الحالي

لقد كان لسقوط نظام الأسد بتاريخ 8-12-2024 بعد عقود من الظلم والقتل تأثيرات مزلزلة في الشرق الأوسط. هاهي الأمور والرؤى تتضح وتنحل رويدا رويدا في لبنان واليمن والعراق، أضف الى ذلك، نشوء تغيرات سياسية دولية وإقليمية كبيرة تجاه سوريا مما تنعكس إيجابا بالمجمل على الداخل السوري. أن أتفاق الشرع-عبدي لهو اتفاق تاريخي وحاسم لما له من تأثيرات وتبعات سلمية وإيجابية على الكرد في سورية سبيلا للوصول إلى تفاهمات حقوقية أكبر وأوسع. لقد تعامل السيد الشرع بعقلانية وهدوء شديدين تجاه الكرد ومطالبهم في سورية منذ اللحظة الأولى على الرغم من بعض الأصوات الكردية التي تشتمه وتستهزئ به وبلحيته وكذلك يفرحون بعدم الاعتراف الأمريكي بحكومة دمشق (قصة الاعتراف، الموضوع في مكان آخر مختلف تماما). هؤلاء لا يفقهون السياسة وهم رعاع سذج ولا يقرأون السياسة الدولية بعقلانية، وهم أيضا غير واعيين لحساسية ومتغيرات المرحلة المحلية والإقليمية والدولية. لست بعالم للغيب، ولكن لا أستبعد أن تكون هناك علاقات كاملة مع أمريكا بنهاية العام الحالي، وإذا كان هذا غير كافي، فلا أستبعد أيضا اتفاق سلام مع ا س را 8 ئ يل بنهاية عام 2026 ضمن تفاهمات عام 1974. كذلك كان لسقوط نظام الأسد تأثيرات مباشرة إيجابية على عملية توحيد الصف الكردي السوري بعد أن كان عصيا على الدمع لسنين طوال–حتى احتفالات نوروز هذا العام كانت لها نكهة مهرجانية مختلفة عن الأعوام السابقة. من أجل كل هذا وذاك نقول بأن سقوط النظام كان له تأثير مزلزل داخليا وخارجيا وكشف لنا كم كان ذاك النظام ضارا ونرجسيا ساما للداخل والخارج على حدا سواء. (أنظر مقالي المنشور بعنوان: “نهاية الاشتراكية في الشرق الأوسط وسقوط الصنم الأخير” صوت كردستان 2025).

أما بخصوص المؤتمر الكردي-الكردي السوري المزمع عقده قريبا من أجل توحيد الخطاب الكردي تجاه دمشق. نقول بأنه خطوة إيجابية ومهمة مع العلم بأن السيدة الهام أحمد قد قالت بما فيه الكفاية عن هذا الخطاب من خلال تصريحاتها الإعلامية، وكذلك اتفاقات قسد مع الأمن العام بخصوص حلب وسد تشرين لم تترك للأحزاب الكردية الأخرى الكثير لتقوله في خطابها. وهي خطوة سياسية مكوكية مسبقة للأحداث من قبل الأحزاب التي تنضوي ضمن مجموعة العمال الكردستاني ومحيطها ستسجل لها في مستقبل الحركة السياسية الكردية السورية، على عكس مجموعة أحزاب البارزاني الخالد، التي قالت حتى بأنها لم تكن على علم مسبق باتفاق الشرع-عبدي الموقع في شهر رمضان المنصرم. يبدو لي من خلال تحليلي السياسي المتواضع بأن الأنكسي سيوحد خطابه مع أحزاب الأدارة الذاتية وليس العكس والله أعلم. مهما يكن من أمر، الحوار الكردي-الكردي هام جدا لتعزيز الوحدة الوطنية الكردية ودعم الأمن والاستقرار وتأطير روابط الأخوة الكردية العربية وكذلك تقوية روابط التعايش المشترك مع جميع مكونات الشعب السوري بمختلف عقائده وأعراقه.

ختاما، نستطيع القول بأن القضية الكردية قضية ذات بعد داخلي سوري، أقليمي ودولي, وبالتالي, أفضل الحلول هي التي تكون من وجهة نظر استشرافية من خلال الاندماج في الدولة السورية على أسس دولة المواطنة الكاملة والعدالة والمساواة في الحقوق والواجبات، ولاسيما الثقافية والسياسية بعيدا عن مشاريع طائفية عرقية تؤدي في النهاية إلى وجود غير آمن للكرد ضمن المحيط العربي والإقليمي, آخذين بعين الاعتبار في نفس الوقت ضبابية وهلامية الموقف الدولي من هكذا مطالب أصلا, وعدم الاكتراث كثيرا لبعض الكرد المقيمين في الخارج الذين يضربون وطنيات من خلال رفع شعارات عنترية كرتونية وفذلكات غير واقعية لبناء وطن فيسبوكي وهمي على حساب مساعدات الجوب سنتر و العمل الأسود ودافعي الضرائب.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *