قراءة في مائدة روحية قليلها شفاء وكثيرها هناء- د. نضير الخزرجي

 

تختلف مائدة الطعام في شهر رمضان عن بقية أشهر السنة، وتختلف المائدة في المطاعم الفاخرة عن المطاعم الشعبية، وتختلف مائدة الغني عن مائدة الفقير، وتتمايز مائدة ذات الدخل العالي عن ذات الدخل المحدود، وهكذا تختلف الموائد من مجتمع إلى آخر ومن ثقافة إلى أخرى، ومن بلد إلى آخر، ولكن القدر المتيقن أن لكل مائدة من هذه الموائد تنوعت أكلاتها أو قلت، أكلة رئيسية يجتمع عليها الآكلون، وتبقى بقية الأطعمة على السفرة الواحدة هي من باب الأكلات الثانوية أو الإطارية التي تزين لوحة المائدة والناس حولها جلوس.

وربما تجد من كل هذه الموائد أن مائدة ذات الدخل المحدود أكبر وأوسع من مائدة ذات الدخل العالي، لا لكرم في الأول وبخل في الثاني، وإنما لأنَّ الأول زيَّن سفرة أسرته بأنواع السلطات والخضراوات والمخللات وما شابه مع طعام محدود على قدر عدد الأفراد، واكتفى الثاني بطعام شهي يزيد على أفراد أسرته دون زينة من الخضروات والسلطات والمخللات ونظائرها، وربما كانت قيمة سفرة ذات الدخل المحدود بنحو النصف أو أقل من قيمة نظيره، ولكن الناظر إلى المائدتين الممدودتين سيستحسن السفرة الأولى لتنوعها وجمال تنسيقها وتطعيمها بما قلّ ثمنه وكثرت قيمته الغذائية وسهل تناوله وساعد على هضم الأكلة الرئيسية، وهكذا الأمر عندما تبهرنا سفرة رمضان وسفرة المطاعم لا لتعدد الاكلات الرئيسية فحسب وإنما لكونها مرصعة بأنواع عدة من زينة الموائد مما يكسبها رونقاً جميلاً يساعد على فتح الشهية وتسليك المريء، على أن زينة ذات الدخل المحدود في بيت أحسنت المرأة تدبيره هو أفضل بكثير من زينة المطاعم الفاخرة ليس أقل أن زينة البيت أقل مؤونة وأخف على جيب رب البيت، فيما أن زينة المطاعم في أغلب الأحيان هي أغلى من الأكلة الرئيسية وأثقل على الجيب وأكثر مفاجئة ومفاجعة على قلب الدافع عندما تصدمه قائمة الأسعار!

والنفس الإنسانية بفطرتها السليمة تواقة إلى الزينة وتنوعها نظراً وتلمساً وإحساساً وتفاعلاً، ولهذا قيل: العين تأكل قبل الفم، لأنَّ الزينة والتزين جزء من المحفزات والمرغبات، وفي كل جزئية من جزئيات حياة المرء هناك مرغبات جاذبة، في المنزل، في العمل، في المجتمع، في أماكن العبادة، في الحضر، في السفر، في المدينة، في القرية، في الواحة، في الصحراء، في الجبل، في الوادي، في البحر، في النهر، في الساحل، في الشاطئ، في الخلوة الشرعية، في الخلوة مع الذات، في الخلوة العبادية، حتى عندما ينفر المرء من ضجيج المدينة وزحمتها إلى مكان لا يرى فيه إنسياً خفياً ولا جنياً ظاهراً فهو يرفل بزينة يراها ولا نراها، رغب فيها وإليها، أدركها بذاتها وعجزنا عن رؤية معالم خلوته.

 

خلوات ومرغِّبات

وإذا اعتاد الناس على وصف المائدة الرمضانية بخاصة التي تقام في المساجد والمراكز وتُنصب في الأزقة والحارات بمائدة الرحمان باعتبار أن شهر رمضان المبارك هو شهر الله، فإن هناك مائدة أخرى لنا أن نسميها مائدة الرحمان أيضا، وهي التي تلك التي يمدها المربوب طرفها بيده والطرف الآخر بيد الرب، المزيَّنة بالكثير من المرغبات العبادية التطوعية إلى جانب العبادة المفروضة وهي الصلوات الواجبة، أو ما يُعرف بالنوافل التي يقدمها المرء بين يدي ربه.

ولأنَّ الصلوات الواجبة فرض عين لابد من الإتيان بها، فإنَّ العبدَ مسؤول عنها ويُحاسب إن تركها أو تهاون بها، لكن النوافل طوعية فإنها من زينة العبادة، وقد جمعها الفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي في في “شريعة المُرَغِّبات”، وهو كتاب صادر في بيروت عن بيت العلم للنابهين في 168 صفحة من القطع الصغير ضمَّ (312) مسألة شرعية مع مقدمة للناشر وأخرى للمعلق الفقيه الباكستاني الفقيد آية الله الشيخ حسن رضا الغديري (1371- 1446هــ = 1952- 2024م) بضميمة مجموعة من الهوامش، فضلاً عن تمهيد غني للمؤلف عن أهمية المرغبات في حياة الانسان، وقد ألحق بالكتاب قصيدة من نظمه في رثاء المهندس محمد علي الأعرجي (1390- 1445هــ = 1970- 2023م) حيث صدر الكتاب عن روحه تخليداً وتثميناً لجهوده في العمل مع المؤلف لسنوات عدة في المركز الحسيني للدراسات بلندن.

لا ينحصر كتاب الكرباسي بالنوافل اليومية الملحقة بالصلوات اليومية الواجبة التي قال فيها الإمام الحادي عشر من أئمة أهل البيت عليهم السلام الحسن بن علي العسكري عليهما السلام أنها من علامة المؤمن في قوله عليه السلام: (عَلاَمَاتُ اَلْمُؤْمِنِ خَمْسٌ، صَلَوَاتُ -صلاة- إِحْدَى وَخَمْسِينَ، وَزِيَارَةُ اَلْأَرْبَعِينَ وَاَلتَّخَتُّمُ في اليمين -بِالْيَمِينِ-، وَتَعْفِيرُ اَلْجَبِينِ، وَاَلْجَهْرُ ببِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ)، فبحساب الركعات اليومية الواجبة وهي “سبع عشرة” ركعة مضاف إليها نافلة الصبح “ركعتان”، ونافلة الظهر “ثمان” ركعات، ونافلة العصر “ثمان” ركعات، ونافلة المغرب “أربع ركعات”، ونافلة العشاء ركعتان من جلوس وتُحسب “ركعة واحدة”، ونافلة الليل “إحدى عشرة” ركعة، وحاصل جمعها إحدى وخمسون ركعة

وبتعبير المؤلف في التمهيد: (الصلاة على قسمين: إما مفروضة وإما مرغوبة، فالأولى ما أوجبها الله على المكلَّفين، والثانية ما رغَّب فيها المؤمنين، أي حبَّبها إليهم، والفرائض اليومية تكتمل بالنوافل اليومية، واما سائر الصلوات المستحبة فلك أن تسميها بالنوافل أو بالمستحبات أو المرغبات).

ولعلّ من الفوائد الجليلة للمرغبات التي تعود على المرء بالنفع كما يؤكد الشيخ الكرباسي: (هو دفع البلاء أو رفعه، بالإضافة إلى الأجر والثواب، وبعيداً عن ذلك فإن النفس بحاجة إلى رياضة روحية، ولا أظن هناك أفضل من الصلاة والتقرب الله جلَّ وعلا، وقد قال تعالى: “ألا بذكر الله تطمئنُ القلوب” الرعد: 28، وما الصلاة إلا أفضل السبل الى ذلك، إنها بُنيت على الذكر، بالإضافة على أنها أقرب الوسائل للإتصال بالخالق المنعم، ومن هنا يعدها الرسول صلى الله عليه وآله وسلَّم من إحدى الثلاث التي كان يحبها من هذه الدنيا)، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (حُبَّ إليَّ من الدنيا ثلاث: النساء، والطيب، وقرة عيني في الصلاة).

وربما يتساءل المرء عن القصد من المرغبات ما دام العبد يواظب على أداء الواجبات في وقتها ومحلها؟

يعتقد المعلق الشيخ الغديري أن النوافل أو المرغبات من: (الأمور التي يُرّغِّب الشرعُ الحنيف القيام بها لمزيد العُلقة بين العبد والمعبود وفيها القربى إليه، وترميماً للخلل الذي قد يحدث في الواجبات والفرائض)، وبتعبير الأديب اللبناني عبد الحسن دهيني في مقدمة الناشر: (ورأفة من الله بعباده الأعلم بهم وبأحوالهم وما يعترضهم من هموم ومشاكل وما يعتريهم من علل وغيرها ارتأى أن يسنَّ لعباده مرغِّبات لم يفرضها عليهم ولكن حبَّبها إليهم لأنه عزَّ وجلَّ أرادها أن تكون جابرة للخلل، ومعوِّضة للنقص الذي قد يصيب الواجبات من دون أن يكون ذلك مقصوداً أو نابعاً من إهمالٍ أو تقصير).

 

مائدة الأرض والسماء

يواصل الفقيه الكرباسي بيان الصلوات المرغبات سوى الصلوات الواحد والخمسين من فروض ونوافل يومية، وهي على أربعة أقسام: (1) منها ما تختص بوقت معين، (2) ومنها ما يختص بحدث وغرض معين، (3) ومنها ما يختص بمكان بعينه، (4) ومنها عامة لا تختص بزمان ولا مكان ولا حدث.

فالصلوات من النوع الأول المختصة بزمان وتوقيت هي:

* صلاة الغفيلة بين فريضتي المغرب والعشاء.

* نوافل ليلة الجمعة ونهاره.

* صلاة الإعرابي، وهي بديلة عن صلاة الجمعة لمن تعذر عليه الحضور لبعد أو ما شابه.

* صلاة ليلة الرغائب، وهي أول ليلة جمعة من شهر رجب إذا سبقها يوم الخميس من شهر رجب.

* صلاة الألف ركعة، وتصلى في نهار كل يوم أو ليلة، ويمكن الإتيان بها حتى في حالة المشي ومن دون قراءة السور، والإتيان بالركوع والسجود وبالإشارة إذا استدعى ذلك.

* صلوات شهر محرم، في الليلة الأولى منه، وفي ليلة عاشوراء، وفي آخر الليل من ليلة عاشوراء، وصلاة يوم عاشوراء.

* صلوات شهر صفر، وربيع الأول، وجمادى الآخرة .

* صلوات شهر رجب: وفيه من النوافل صلاة الصحابي الجليل سلمان الفارسي المحمدي.

* صلوات شهر شعبان: ركعتان في يوم الخميس منه، إضافة إلى صلوات في كل ليلة بين ركعتين وأربع ركعات.

* صلوات شهر رمضان: ويُستحب صلاة ركعتين، إضافة إلى صلوات في كل ليلة بين ركعتين وأربع ركعات، وفيه أعمال ونوافل كثيرة وكلها تصب في صالح المتعبد في دنياه وآخرته.

* صلوات شهر شوال: فيه صلاة عيد الفطر في اليوم الأول منه، فضلا عن صلوات أخرى.

* صلوات شهر ذي القعدة: وفيه صلاة أول أحد من الشهر، إلى جانب صلاة دحو الأرض في اليوم الخامس والعشرين منه.

* صلوات شهر ذي الحجة: فيه صلاة عيد الأضحى المبارك، وصلاة السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام، وصلاة يوم عرفة وفيها يُقرأ دعاء عرفة المنسوب للإمام الشهيد الحسين بن علي عليهما السلام، وفي يوم السابع عشر منه والثامن عشر صلاة الغدير، وهو يوم الولاية وإكمال الدين، وفي اليوم الرابع والعشرين صلاة يوم المباهلة، إلى جانب صلوات أخرى.

* صلاة الأشهر عامة، ركعتان في ليلة أول كل شهر، فضلا عن صلوات أيام الأسبوع ولياليه.

* صلاة النيروز: أو الربيع وفيه أربع ركعات بعد صلاة العصر.

* صلاة الهدية: مقدمة إلى أئمة أهل البيت عليهم السلام الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

وأما المرغبات من الصلوات التي تختص بالأغراض فهي:

* صلاة دفع البلاء، متضمنة لصوم وركعتين.

* صلاة الوحشة: وهما ركعتان تهدى إلى الميت في ليلة دفنه، وكذلك صلاة الأموات ركعتان في كل ليلة تهدى للقريب من الوالدين وغيرهما.

* صلاة لدفع الجوع وأخرى لدفع الوسوسة، وهما ركعتان.

* صلاة الإستغناء والإستقواء: ركعتان للإستغناء عن دين ورفعه والإستقواء على سلطان ودفعه.

* صلاة المهمات: أربع ركعات لدفع أمر معضل دهم الإنسان.

* صلاة العسر، وأخرى صلاة الإستغاثة بالله وبأوليائه وأوصيائه.

* صلاة الخوف من الظالم: ركعتان طلباً للنصرة من الله ورسوله وأوليائه على ظالميه.

* صلاة الذكاء: ركعتان في آخر الليل طلباً للحافظة والذاكرة.

* صلاة الغفران: ركعتان طلباً للمغفرة.

* صلاة الرزق: ركعتان أو أربع طلباً للرزق الحلال.

* صلاة أداء الدَّين: ركعتان لدفع ما هو همٌّ في الليل وذلٌّ في النهار.

* صلاة الكفاية: ركعتان مستنجداً بمحمد صلى الله عليه وآله وسلَّم وبجبرائيل عليه السلام.

* صلاة المسافر: ركعتان عند السفر حتى يسهل الله له سفر العبد ذهاباً وإياباً.

* صلاة العافية: ركعتان لطلب الشفاء والعافية.

* صلاة طلب الولد: ركعتان قبل المقاربة الزوجية، طلباً للولد الصالح من ذكر أو أنثى.

* صلاة لدفع الغم، وأخرى لرفع الفزع.

* صلاة  لفك أسر سجين، وأخرى لدفع غائلة عدو.

* صلاة الشكر: ركعتا شكر لله على استجابة الدعاء وتحقيق الأماني.

* صلوات أخرى: مثل صلاة الإستخارة.

وأما الصلوات التي تقام في مكان مخصص فهي الأخرى عديدة منها:

* صلوات مسجد الكوفة في العراق، الذي فيه استشهد خليفة المسلمين وإمامهم علي بن أبي طالب الهاشمي عليه السلام وهو المولود في بطن الكعبة، وصلوات مسجد السهلة في الكوفة، وكذلك صلاة مسجد الحواري الجليل زيد بن صوحان العبدي، وصلاة مسجد الحواري الجليل صعصعة بن صوحان العبدي، وكلاهما في الكوفة.

* صلاة أسطوانة التوبة، وصلاة أسطوانة جبرائيل، وكلاهما في المسجد النبوي الشريف.

* صلاة مشربة أم إبراهيم مارية القبطية زوجة النبي الأكرم في المدينة المنورة.

* صلاة المسجد الحرام: ركعتان في بيت الله الحرام.

* صلوات المراقد والمشاهد الشريفة: ركعتان في مشاهد الأئمة والأولياء والصالحين.

وأما الصلوات التي لا تختص بمكان أو زمان فمنها:

* صلاة الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام وصلاة أمير المؤمنين عليه السلام، وصلاة فاطمة الزهراء عليها السلام، وصلاة الإمام الحسن بن علي عليهما السلام، صلاة الإمام الحسين بن علي عليهما السلام، والتسعة المعصومين من ذريته أولهم زين العابدين علي بن الحسين وآخرهم المهدي المنتظر عجّل الله في ظهوره الشريف وبينهما الباقر والصادق والكاظم والرضا، والجواد والهادي والعسكري عليهم السلام.

* صلاة جعفر الطيار: الشهيد بمؤتة في الأردن، وصلاة الحاجة.

وهناك صلوات تجمع بين المكان والغرض، من قبيل صلاة لطلب الحاجة في مسجد الكوفة، وصلوات تجمع المكان والزمان، وصلاة النصف من رمضان عند قبر الإمام الحسين عليه السلام، وصلاة عقد الإحرام.

وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد فرض على العبد الصلوات المفروضة الواجبة، فإنه سبحانه وتعالى أفاض عليه من مائدة رحمته الكثير من المرغبات، فما عليه إلا أن يلتقط منها ما يشاء لدنياه وآخرته، ومن جلس عند مائدة الرحمان لا يقوم منها بإذنه تعالى إلا بوافر الخير والغفران.

الرأي الآخر للدراسات- لندن

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *