منذ نشأته في خضم المواجهة مع تنظيم داعش، شكّل الحشد الشعبي ركناً أساسياً في معادلة الأمن والسيادة العراقية. ومع قرب انتهاء مهمة التحالف الدولي في العراق، يعود ملف الحشد إلى الواجهة، محمّلاً بتحديات كبرى وأسئلة مصيرية حول مستقبله ودوره في الدولة. فهل تسير الحكومة نحو إصلاح هذه المؤسسة وضبط إيقاعها ضمن إطار الدولة، أم أن الضغوط الإقليمية والدولية ستفرض سيناريوهات الإقصاء والتفكيك؟ بين مطرقة التوازنات الداخلية وسندان الصراع الإقليمي، يقف العراق اليوم أمام مفترق طرق حساس يرسم ملامح المرحلة المقبلة.
وسط هذه التعقيدات، تتباين الآراء بين من يرى ضرورة دمج الحشد ضمن القوات المسلحة الرسمية لضمان وحدة القرار الأمني، وبين من يحذر من خسارة تجربة أثبتت فاعليتها في التصدي للتهديدات الكبرى. في الوقت ذاته، لا يمكن إغفال المخاوف الداخلية والخارجية من استمرار وجود تشكيلات مسلحة ذات صبغة غير نظامية خارج الأطر التقليدية للدولة. هذه المخاوف تغذي دعوات لتقليص نفوذ الحشد أو تفكيكه، ما يفتح الباب أمام أزمات سياسية وأمنية جديدة قد تعيد العراق إلى دوامة عدم الاستقرار.
ومما يزيد المشهد تعقيداً أن بعض فصائل الحشد باتت تأتمر بأوامر خارجية، خصوصاً من إيران، وتمارس أدواراً تتجاوز الحدود الوطنية للعراق. إذ تورطت في التدخل العسكري في سوريا، وشنت هجمات متكررة على قواعد التحالف الدولي، مما عرض العراق لضغوط دولية إضافية. كما ساهمت هذه الفصائل في زعزعة الأمن في المناطق المتنازع عليها وفق المادة 140 من الدستور العراقي، إضافة إلى تحرشاتها المستمرة بإقليم كردستان، مما فاقم من حدة الانقسامات الداخلية وأضعف مساعي التهدئة والاستقرار في البلاد.
في المقابل، ثمة فرصة حقيقية أمام الحكومة العراقية لقيادة عملية إصلاح شاملة للحشد، تحفظ دوره الوطني، وتعيد تنظيمه بما ينسجم مع متطلبات بناء دولة مؤسسات قوية. إن ترسيخ مبدأ الولاء للدولة وحدها، وإعادة هيكلة القيادات والانضباط تحت إشراف السلطات الشرعية، يمثلان حجر الأساس لأي مسار ناجح. فالحفاظ على مكتسبات المعركة ضد الإرهاب لا يتناقض مع ضرورة تأطير جميع القوى ضمن مظلة الدولة، بل يعزز من مكانة العراق كدولة قادرة على حماية سيادتها وإدارة أمنها بعيداً عن التدخلات والإملاءات الخارجية.
مع انتهاء مهمة التحالف الدولي، يقف العراق أمام تحدٍ وطني حساس يتمثل في إدارة ملف الحشد الشعبي بحكمة ودراية. فبين الدعوات للدمج والإصلاح، والضغوط نحو الإقصاء والتفكيك، يبقى التحدي الأكبر هو الحفاظ على وحدة الدولة وهيبتها دون المساس بتضحيات آلاف المقاتلين الذين ساهموا في دحر الإرهاب. إن التعامل مع مستقبل الحشد الشعبي لا ينبغي أن يكون رهينة للإملاءات الخارجية أو الحسابات الضيقة، بل يجب أن ينبع من رؤية وطنية شاملة تؤسس لدولة مؤسسات قوية، قادرة على استيعاب جميع قواها ضمن إطار الشرعية والسيادة.