حين تتهامس الجغرافيا بالعقل: التأمل في مصير وطن تحكمه الأطياف وتهدده الانقسامات – بوتان زيباري

في رياح السياسة العاتية التي تعصف بأطلال الدولة السورية، يبدو أن الاتفاق الموقّع بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وهيئة تحرير الشام (هتش) لم يكن سوى وميض برقٍ في سماءٍ ما لبثت أن اكتظت بالغيوم. فها هو مؤتمر قَامشلو الأخير، بلغة ملامحه المضمرة وتصريحاته الصامتة أكثر من الصاخبة، يكشف عن مكامن توتّرٍ خفيٍّ يوشك أن يطفو على سطح الوقائع. ولعلّ ما بين السطور أكثر صدقًا من البيان الختامي، فالأرض تهمس بما لا تقوله المنابر، والتاريخ يكتب ما لم يُقَل.

إن التلويح بالخيار العسكري تجاه قسد أو المكوّن الكوردي ليس مجرّد حماقة تكتيكية، بل مقامرة وجودية، لا تُفضي إلا إلى التصدّع في الكيان السوري المتآكل أصلًا. فليس من الحكمة أن تطعن في خاصرتك حين يترنّح جسدك من آلاف الجراح. إنّ الدم السوري – كوردياً كان أو عربياً، مسيحياً أو مسلماً، سنياً، درزياً أو علوياً – لا يحتمل مزيدًا من النزف، ولا يسعُ أرضًا أن تظلّ مسرحًا لاقتتال من يدّعون حرصهم عليها.

ما من دواء لهذا الوجع المتراكم سوى الحوار، وما من جسر يعبر بين الطوائف والمكوّنات سوى الكلمة الصادقة، المتواضعة، النابعة من وعيٍ جمعيٍّ بأن البقاء لا يكون إلا معاً، وأنّ الوطن ليس ميراثًا لفرقةٍ ولا ملكًا لأميرٍ. إنّ التفاوض ليس ترفاً سياسياً، بل ضرورة وجودية، وإقصاء الآخر لا يؤسس شرعية، بل يعجّل بالانهيار.

لكنّ المأساة تتجلّى حين يتوهّم الفرد أنه الدولة، وأنّ صوته هو الصدى الوحيد المشروع في وادٍ أُخرِسَت فيه الأصوات. فحين ينفرد أحمد الشرع بالقرار، محاطًا بالنواة الصلبة لهيئة تحرير الشام، مدعومًا من عرّابي هيمنةٍ إقليمية لا يرون في سوريا سوى ورقة تفاوض أو درعًا لدرء مصائبهم، فإننا لا نكون أمام قيادة وطنية، بل أمام مرايا مشروخة تعكس رغبات الغير لا تطلعات السوريين. أولئك الذين يمدّون له يد العون اليوم، ما عرفوا خيرًا في أوطانهم، فكيف بهم يصنعونه لنا؟! لو كان فيهم رشاد، لرأينا أثره في شعوبهم التي أنهكتها الفاقة والخوف.

إنّ هذا التفرد لا يقيم العدل، ولا يعيد الحقوق، بل يزيد الطين بلّة. فالأزمة لا تكمن فقط في توتر العلاقة مع المكوّنات غير السنّية، بل تمتد إلى داخل المكوّن السنّي نفسه، الذي سُرقت منه خياراته، وصودرت إرادته، ثم قيل له: أنت الممثل الشرعي! كيف يُمثَّل من لم يُسأل؟ وكيف يُعبّر عن صوتٍ جُعِل صدىً لغيره؟

إن الحل لا يكمن في مؤتمراتٍ كرنفالية تُزيَّن فيها الكلمات كما تُزيَّن المنصات، ولا في توصياتٍ صيغت لتُنسى فور إعلانها. فمؤتمر الحوار الوطني الذي أعدّه الشرع، لم يكن إلا مسرحاً لتبرير احتكار القرار الوطني، لا ميداناً لصياغته الجماعية. وما أشبهه بموائد السلطان، حيث يُستدعى الضيوف ليشهدوا على شرعيةٍ مزوّرة لا ليشاركوا في صناعتها.

إنّ سوريا لا تُبعث إلا إذا اجتمع أبناؤها – بكل طيفهم، بمذاهبهم، بآلامهم وآمالهم – على طاولة واحدة، يؤسسون من رماد المحرقة عقدًا وطنيًا جديدًا. مؤتمر وطني حقيقي، لا تُهيمن عليه رايةٌ دون أخرى، ولا تُقصى فيه لغةٌ لحساب أخرى، مؤتمر يصدر عنه ميثاق جامع، وقرارات مُلزمة لا شعارات مُسكنة، يستند إلى فقه التاريخ لا سُرعة اللحظة، وإلى منطق التشاركية لا منطق الغلبة.

ربّما لن يكون الوصول إليه سهلاً، وربّما سيُغرق الطامحون في استبدادٍ مموّه هذا النداء بالضجيج والتشكيك. لكنّه يبقى الطريق الوحيد إلى الدولة السورية المنشودة: دولةٌ لا تُحكم باسم طائفة، ولا تُدار بعقلية تنظيم، بل تنبض بروح التنوّع وتُبنى على أنقاض الاستئثار، لا أنقاض المدن.

وهكذا، فإن من أراد أن يكون صاحب مشروع وطني، عليه أن يزرع بذوره في تربة التفاهم، لا في حقول الألغام. أن يتكئ على الذاكرة الجمعية، لا على فائض القوة. أن يصغي لصوت الشعب قبل أن يصدّق صدى بطانته. فما أكثر العروش التي بنيت على الرمال، وما أقلّ ما بقي منها حين هبّت ريح التاريخ.

بوتان زيباري

السويد

02.05.2025

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *