د. محمود عباس
عنوان المقال: من أنياب الأسد إلى مخالب داعش سوريا تُسْلَب من جديد
صرخة في وجه التكفير والخراب والإرهاب.
من يهاجم المكون الدرزي في السويداء؟ من يحاصر مدنها، ويهدد شيوخها، ويحرّض على أبنائها بذريعة كلمة قيلت أو لم تُقَل؟ من نصب نفسه حاميًا للرسول الكريم وكأن الإسلام ملكيته الخاصة، وكأن نبي الرحمة جاء لقوم دون قوم، ولدين دون آخر، متناسين أن محمدًا عليه السلام نبي الإنسانية كلها، لا نبي التنظيمات الظلامية ولا راعي جهالة الميليشيات؟
من الذي ارتكب مجازر الساحل بحق الأبرياء، وذبح العلويين على الهوية، لا لذنب سوى ذريعة أنهم “ليسوا من الفرقة الناجية”؟ من حوّل جرمانا، وصحنايا، إلى مساحات للترهيب، ورفع شعار “التوبة أو القتل” في وجه المسيحيين؟ من يفرض على طلاب الجامعات منهجًا تكفيريًا بالقوة، يُرهب النساء بفرض الحجاب، ويحوّل قاعات العلم إلى ساحات لصلوات استعراضية، لا خشوع فيها، بل استعراض وتخويف؟
من هؤلاء الذين ينشرون مكبرات الدعوة في أحياء المسيحيين كما لو أننا في فتوح جاهلية جديدة؟ أي دينٍ هذا الذي يعتنقونه، وأي ربٍ يخدمون؟
من هم هؤلاء الذين يهددون الكورد، تمامًا كما هدّدوا الدروز والعلويين والمسيحيين؟ من الذين يتوعدون: “اليوم لكم، وغدًا للمنطقة الكوردية”؟ أليسوا أنفسهم من المرتزقة الذين باعوا أنفسهم لتركيا، وحوّلوا الشمال السوري إلى حديقة خلفية للمشروع العثماني الجديد؟
إنهم ليسوا مجهولين، إنهم منظمات تكفيرية إرهابية، متشحة برايات الدين، لكنها لا ترفع إلا رايات الظلام، تغذيها تركيا، وتباركها قنوات الذل والانبطاح العربي.
هؤلاء ليسوا هامشيين، إنهم من يتحكم اليوم بما يسمى “الحكومة الانتقالية”، وهي، في حقيقتها، ليست إلا وجهًا آخر لنظامٍ جرى طلاؤه بلون جديد، لكن الروح واحدة، روح القمع، والإنكار، والتكفير، والتطهير الديني، والقومي.
حين أعلنت هيئة تحرير الشام أنها “حلّت نفسها” وانضمت للجيش الوطني، ظنّ البعض أن ثمة ولادة جديدة، لكنها لم تكن إلا كذبة، كذبة مدفوعة من أجهزة استخبارات تركية بارعة في إعادة تدوير الموت.
قوات قسد، التي حررت الرقة والطبقة ومنبج، والتي ساهمت في دحر داعش حين صمت الجميع، تُتهم بأنها “لا تذعن للخط الوطني”، بينما هذا “الخط الوطني” الجديد، لم يُنتج إلا الفصائل التكفيرية ذاتها، والشعارات الجهادية ذاتها، والانتهاكات ذاتها، لكن الفرق أن قسد بُنيت على قيم التعددية، على مشاركة المرأة، على احترام المكونات، على فكرة الدولة التي تحترم مواطنيها لا تقتلهم.
فأين هو “الجيش الوطني السوري” من المجازر؟ من اغتيال المشايخ في السويداء، من تفجير الكنائس، من قصف عفرين؟ من الاعتداء على نساء الإيزيديين، من سحل النشطاء والصحفيين؟ من المليشيات التي تزرع الموت في ريف دمشق، وتعبث في الساحل السوري، وتضرب قرى المسيحيين في الشام؟
الأمن العام؟ الشرطة؟ إنها مجرد واجهة، أما السلطة الفعلية، فهي في يد الميليشيات المتعددة الأسماء، الموحدة الغاية، خلق سوريا بلون واحد، صوت واحد، دين واحد، زيّ واحد، فكر واحد، وموت واحد.
المحافظون، الوزراء، من يمثلون هذه الحكومة، مجرد دُمى بربطات عنق، يختبئون خلف الميكروفونات بينما القتلة يُطلقون الرصاص باسمهم، كيف نفسر سكوتهم المريب؟ كيف نفسر خروجهم بكلمات مذلة أمام الدماء المراقة؟ أي ذلّ هذا؟ أيّ دولة هذه التي لا تجرؤ على محاسبة قتلة شعبها؟
ما الفرق بين فصيل هيئة تحرير الشام الذي عُرِض على الإعلام كـ “شرطة مدنية” وبين نفس الفصيل الذي يهاجم السويداء ويهدد قامشلو؟ الفرق في اللباس فقط، أما القلب فواحد، أسود كراياتهم، دامٍ كنيّاتهم، مليء بحقد لا دين له.
الشعب السوري، وبعد أن تنفّس قليلًا من هواء الخلاص من قبضة الأسد المجرم، يُدفع اليوم ليختنق في قبضة التكفيريين، من مربع أمني إلى مربع جهادي، من الاستبداد القومي إلى الإرهاب الديني، من الجحيم إلى جحيمٍ أعمق.
وهنا لا بد من وقفة وطنية كوردية حازمة.
أحذّر، وأطالب، كل القوى الكوردية، وفي مقدمتهم التي اجتمعت تحت مظلة الكونفرانس الوطني الكوردي، والتي خرجت ببيان وطني شامل وبنود تحدد آليات الحوار مع ما يُسمى الحكومة الانتقالية، بعدم الانجرار إلى أي حوار مع هذه الحكومة المزيفة، التي لا تملك الأرض ولا القرار، والتي تحميها رايات داعشية بثياب جديدة، إلا بعد ضمانات دولية كبرى.
فالحوار لا يكون مع من يُمسك بسكينٍ خلف ظهره، ولا مع من تتقدم ميليشياته التكفيرية قبل كلماته، فأي حكومة هذه التي تعجز عن وقف مجازر حلفائها، أو تتغاضى عنها؟ وأي مفاوضات تُعقد بينما تهديدات الإبادة تلوح فوق رؤوس الكورد والدروز والعلويين والمسيحيين؟
الواجب الوطني والأخلاقي يفرض عليكم التريث، بل الوقوف الصارم أمام كل محاولة لاختراق المناطق الكوردية تحت غطاء سياسي، وهي في حقيقتها مقدمة لاجتياح تكفيري دموي، لا مكان في كوردستان الحرة لمن يرفع رايات الظلام ويخفي تحت عباءته مشاعل الحقد.
لا تسمحوا لأي مسؤول باسم هذه الحكومة بالدخول إلى مناطق الإدارة الذاتية، فكل خطوة من طرفهم، هي تمهيد لدخول الموت، تمامًا كما فعلوه في عفرين، كما فعلوه في إدلب، كما فعلوه في ريف حلب، والآن يريدون فعله في الجزيرة.
وإنني أنادي، بوضوح لا يقبل اللبس، الدول الإقليمية والدولية كافة وعلى رأسهم أمريكا وروسيا وفرنسا، التي تصلها ارتدادات هذا المد التكفيري، ألا تتعامل معه باعتباره شأناً سورياً داخلياً، بل خطراً عابراً للحدود، وعاملاً فاعلاً في زعزعة الأمن الدولي
العمل المشترك اليوم، بات ضرورة وجودية، لا فقط سياسية.
فما يجري هو نسخة متجددة من تنظيم داعش، لكن بأسماء وشعارات جديدة، أكثر خُبثًا، وأشد قدرة على التسلل إلى المؤسسات والمجتمعات، إن لم يُجتَث هذا السرطان التكفيري من جذوره الآن، فستغدو شوارِع عمان، كما حدث قبل أيام، والرياض، وأنقرة، وبغداد، وبيروت وحتى عواصم أوروبا شاهدة على تمدده، وعندها لن تجدي خطابات الإدانة، ولن تجفف بيانات القلق الدماء المسفوكة.
أين الإعلام العربي من كل هذا؟ أين الجزيرة والعربية والحدث؟ أين القنوات التي تملأ شاشاتها بشعارات “الديمقراطية”؟ لماذا هذا التواطؤ؟ حول ما يجري ضد المكون الوطني الدرزي، ولماذا يُغطّى القاتل، ويُشتم المقتول؟ لماذا تُصوَّر هيئة تحرير الشام كحليف وطني، بينما يُتهم الكورد، ضحايا الإرهاب، بأنهم الانفصاليون؟
إنه زمن اختلاط المعايير، لكن التاريخ لا يُغش، والسجلات ستكتب، وستُعرف الوجوه، حتى تلك التي تقنّعت بخيوط الكذب والرياء.
نعم، نحن اليوم أمام خطر ليس أقل من داعش، بل هو داعش الجديدة، لكن بهندامٍ رسمي، وبكلام ناعم، وبإعلام مدفوع.
هي لا تنشر الإسلام، بل تنشر ثقافة الكراهية، ثقافة الإقصاء، وتحلم بخلافة لا مكان فيها للدروز، ولا للعلويين، ولا للمسيحيين، ولا للكورد، ولا للنساء، ولا للأحرار، إنها دولة الخوف، دولة الردة الكبرى عن كل القيم التي حملتها الثورة السورية في بداياتها.
لهذا، أدعو كل القوى الوطنية، من دمشق إلى قامشلو، من السويداء إلى كوباني، ومن الحسكة إلى حماة، إلى التحرك الآن، لا لاحقًا، فحين تتأخر، سيكون الجواب، لقد فات الأوان.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
5/1/2025م