حين تتقاطع الرصاصة مع المسار السياسي، لا تُسفك الدماء فحسب، بل يُعاد رسم خريطة السلطة من جديد، وتُعاد هندسة مفاهيم الهيمنة، وتُستأنف دورة إعادة إنتاج النخب الحاكمة، فالرصاصة، حين تستهدف رمزًا سياسيًا، لا تُغلق فقط صفحة فرد، بل تفتح مجلدًا جديدًا في تاريخ الإمبراطوريات، محاولة اغتيال ترامب لم تكن فعلًا عابرًا لشاب متمرّد، بل كانت تجسيدًا رمزيًا لانقسام عميق تجاوز الداخل الأمريكي، ليطال جوهر توازنات القوة العالمية، من يملك الحق في إعادة تعريف مفهوم القيادة الإمبراطورية؟ ومن يرسم شكل النظام القادم؟
لم يكن الحدث المحتمل لاغتيال ترامب مجرد نهاية محتملة لرجل، بل كان شرارة يمكن أن تُشعل تحوّلًا بنيويًا على مستوى عالمي، في لحظة، كانت الخريطة الجيوسياسية مهددة بإعادة ترتيب شاملة، لا عبر الجيوش والدبابات، بل من خلال منصات التداول، وخوارزميات الذكاء، وشبكات التحكم في تدفق المعرفة والمعلومة، فاليوم، لم تعد الحرب تُخاض في الخنادق، بل في عمق البنية المعرفية للإدراك الجماعي.
من هنا، يتفجّر السؤال الحقيقي: هل ما نشهده صراع دول، أم صراع شبكات؟ هل ما زالت السياسات تُصاغ في أروقة الحكومات، أم أن الخوارزميات أصبحت هي من تُحدّد متى تبدأ الحروب، ومتى يُعلن السلام، بل ومتى تُمنح الحقيقة صيغتها النهائية؟
وجود ترامب، بما يحمله من فوضى، كان يمنح شركات التكنولوجيا الكبرى شرعية للتحرك وإعادة هيكلة النظام الاقتصادي وفق مقاسها، وموته، كان سيُبطئ هذا الزخم، ويمنح البنوك المركزية والبيروقراطيات التقليدية فرصة لتلتقط أنفاسها. السؤال الذي كان سيُطرح: من يحكم الاقتصاد؟ هل الدولة؟ أم خوارزميات تُدار من منصات لا تُنتخب، ولا تُحاسب، لكنها تُقرّر؟
وفي خضم هذه اللحظة، كانت الحرب في أوكرانيا ستخرج من المسار التفاوضي المبكر، إدارة حذرة كانت لتُفضّل تسوية على نصر موهوم، وروسيا كانت ستصارع لتخرج ببعض المكاسب دون أن تسقط أوكرانيا، أما التحالفات الدولية، فربما كانت لتشهد انتعاشًا للمقاربات التقليدية، وتراجعًا مؤقتًا للاندفاع التقني المفرط في صناعة القرار.
داخليًا، الانقسام الأمريكي كان سيتعمّق، بين من يملكون وسائل تشكيل الوعي، ومن يملكون أدوات السيطرة على الأرض، مع الوقت، كانت ستتشكل تحالفات غريبة بين عالم الثقافة الرقمية وعالم الأمن القومي، تحالفات لا توحّد، بل تُكرّس التوتر بين من يُسيطر على العقول، ومن يزرع الألغام على الحدود.
أما الاقتصاد، فكان سيقف على شفير كساد جديد، ليس مجرد ركود، بل إعادة ضبط للنظام بأكمله، لحظة وفاة ترامب كانت لتُستثمر كذريعة لانتعاش الدولة الأمريكية العميقة الكلاسيكية، مسخرة الاقتصاد الهائل، لا لإنقاذ السوق، بل لإعاقة هيمنة الشكل الجديد من الرأسمالية الرقمية التي لا تستند إلى العمل، بل إلى المعرفة، ولا تُدار بالنقد، بل بالشيفرة.
في هذه الدوامة، كانت قضايا الشعوب المهمّشة، كالكورد، ستظل عالقة على هوامش الأحداث، تُستخدم عند اللزوم كورقة ضغط، وتُنسى عند عقد الصفقات، ورغم أنهم يُشكلون أحد أعمدة حماية الأمن الأمريكي ضد الإرهاب، إلا أن وزنهم الحقيقي لا يزال مؤجّلًا، لا لقصور في نضالهم، بل لأنهم لم يدخلوا بعد في الحزمة الاستراتيجية لاقتصاد الشركات الخوارزمية الكبرى، متى دخلوا، تغيّر موقعهم.
أما الإعلام، فكان سيتحوّل بدوره، لا نحو الحقيقة، بل نحو مزيد من التحكم، موته كان سيفتح الباب أمام خوارزميات أكثر تشددًا في صياغة الخطاب الإعلامي، تُقنن الرؤية، وتضبط الصوت، وتخلق واقعًا وهميًا لا تحكمه الحقائق، بل تُمليه حركة السوق.
في المقابل، كانت القوى الدولية تتابع المشهد بهدوء، أوروبا تُظهر القلق لكنها تُهيّئ لاستقلالية استراتيجية، الصين تستثمر اللحظة لتعزيز نموذجها التكنولوجي، وروسيا تُعيد حساباتها الجيوسياسية في الفضاء السوفييتي السابق، لحظة موت زعيم لا تهز الداخل فقط، بل تُربك خارطة التحالفات الدولية بأكملها.
وهنا، نعود إلى نيتشه “الحقيقة وهم متقن الصياغة” فهل كان اغتيال ترامب ليكشف الحقيقة؟ أم ليؤسس لوهمٍ جديد، يُصاغ بلغة الخوارزميات؟
وفي مشهد كهذا، لا يعود السؤال: من الرئيس؟ بل، من يُعيد تعريف السلطة؟ من يشغّل أدوات السيطرة؟ من يصوغ السردية؟ لم يعد مركز الحكم في البيت الأبيض فقط، بل في خوادم آبل، وغوغل، وتسلا، لم تعد الدولة وحدها تُهيمن، بل تطبيقاتها.
ربما ترامب ليس مجرد زعيم شعبوي، بل الحامل العلني لمشروع خفيّ، انتقال أمريكا من إمبراطورية الجغرافيا إلى إمبراطورية البرمجيات، لم تعد تغزو بالدبابات، بل بالمنصات، لم تعد تُسقط خصومها بالقنابل، بل بالمعطيات، وفي هذا التحوّل، لم يكن موته ليوقف المسار، بل ليكشف هشاشته.
ولذا، كانت لحظة الغياب، لو حدثت، لتفتح على سؤال أعقد من السياسة، هل لا تزال الدول تُقرر مصيرها؟ أم أن الأمر بات في يد كيانات غير منتخبة، لا تُرى، ولا تُسأل، لكنها تحكم؟ هل لا نزال نعرف من يقود هذا العالم؟ أم أننا نعيش في وهم التحكم، بينما الأجهزة تفعل ما تشاء؟
اغتيال ترامب، لو تم، ما كان ليغيّر العالم جذريًا، لكنه كان سيُسكت صوتًا فوضويًا، ويُسرّع تفعيل نمط جديد من الهيمنة، أقل ظهورًا، لكنه أكثر نفاذًا، ولعل المفارقة الكبرى أن أمريكا لم تكن تخشى موته، بل كانت تخشى أن يكشف موته ما لا يُقال، تلك اليد التي لا تُطلق النار، لكنها تُدير المسرح من الخلف.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
11/4/2025م