الحضارة ليست خطًا مستقيمًا، بل أمواجٌ متلاطمة تدفع البشرية إلى آفاقٍ جديدة، من اختراع الكتابة، التي حررت الفكر من قيود الذاكرة، إلى الطباعة، التي جعلت المعرفة ملكًا للجماهير، ومن الإنترنت، الذي ألغى الحدود، إلى الذكاء الاصطناعي، الذي يُعيد تعريف الإبداع نفسه، كانت كل طفرةٍ تحديًا للتكيف ووعدًا بالتحرر.
اليوم، يقف الذكاء الاصطناعي كأعظم هذه الأمواج، ليس أداةً تقنية فحسب، بل شريكًا يُحرر العقل البشري، خاصة في الكتابة الأدبية، حيث يُحول الأفكار إلى نصوصٍ تتوهج بالجمال والعمق.
الذكاء الاصطناعي ليس مجرد مُحسنٍ للغة، بل مُلهمٌ للأدب، يُصقل الأسلوب، يُثري الصور البلاغية، ويُضفي تماسكًا على السرد، روايةٌ كانت تستغرق شهورًا باتت تُولد بأسابيع، مع جملٍ أكثر سلاسةً وصورٍ شعرية أعمق، يُقترح صياغاتٍ مبتكرة، يُعيد تنظيم الأفكار، ويفتح آفاقًا جديدة، كأنه ناقدٌ أدبيٌ يُرافق الكاتب في كل سطر، شاعرٌ يكتب قصيدةً عن الحنين يجد الذكاء الاصطناعي يُقدم له استعارةً لم يفكر بها، وروائيٌ يصوغ حوارًا يجد الخوارزميات تُضيف إليه نبرةً عاطفيةً أقوى، إنه لا يكتب بدلاً عن الأديب، بل يمنحه جناحين ليحلق، محافظًا على أصالة الرؤية ومُعززًا إبداعه.
ومع ذلك، تبقى هناك مساحة لا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يملأها، مهما تطوّر أو تعمّق في فهم اللغة، إنه لا يملك إحساسًا، ولا يتنفس القلق أو الفرح، ولا يعرف طعم الحنين أو مرارة الخسارات، هو لا يعيش التجربة، بل يُعيد تنظيمها فقط.
ولهذا، يظل النص الناتج عنه، مهما بلغ من التماسك، أقرب إلى الهيكل دون الروح، إلى الجسد دون نبض، وهنا تأتي مهمة الكاتب الحقيقي، في أن يُعيد الحياة إلى ما صاغته الآلة، أن ينفخ فيه ذاته، وجُرحه، وشكّه، وانكساره، وعاطفته، ليصير النص حيًا لا مجرد جميل.
ولذلك، ما زال الذكاء الاصطناعي عاجزًا عن تلبية حاجات الشعراء والأدباء والفنّانين في الكتابات الوجدانية والعاطفية الصافية، خاصة حين يُستخدم وحده دون تدخلٍ من صاحبه، فهو لا يعرف لِمَ تُكتب القصيدة، ولا لمن، ولا كم يتطلب الحب من خسارات.
إنه أداة قوية، لكنها تنتظر من الكاتب أن يُشعل فيها الحياة، لا أن يكتفي بما تمنحه من تنظيم وبنية، وهنا يكمن الفارق بين النص الجيّد والنص الحقيقي.
لكن، ككل ثورة، يواجه الذكاء الاصطناعي مقاومةً من متشبثين بالماضي، يسخرون من الكُتاب الذين يستخدمونه، وكأن الإبداع يُقاس بالمعاناة لا بالنتيجة. إنهم كمن هاجم الآلة الكاتبة لأنها “تُفقد الكتابة روحها”، أو كالأميش الذين يرفضون الكهرباء في عالمٍ تُدار فيه الحروب بخوارزميات.
أن تسخر من كاتبٍ يستخدم الذكاء الاصطناعي هو كأن تهزأ بعالمٍ يستخدم التلسكوب بدلاً من عينيه، إنه ليس نقدًا، بل خوفٌ وجودي من زمنٍ يتحرك أسرع منهم. هؤلاء يُمجدون العرق على حساب الفكرة، ويتشبثون بوهمٍ رومانسي عن الإبداع، ظنًا أن النقاء يكمن في الأدوات القديمة.
الذكاء الاصطناعي تحدٍ فلسفي، هل الإبداع فعلٌ فردي، أم تعاونٌ بين العقل والآلة؟ الأصالة ليست في القلم أو الخوارزمية، بل في الرؤية التي تُحركها، من يرفضه يرفض جوهر الإنسانية، السعي لتجاوز الحدود.
إنهم كمن قاوم العجلة خوفًا من فقدان “نقاء” المشي، أو من هاجم الطباعة لأنها “تُبعد الكاتب عن المخطوط”. الحضارة لا تنتظر المترددين، إنها تُعيد صياغة نفسها، ومن لا يُشارك في هذه الرقصة الكونية يُصبح ظلًا على هامش التاريخ.
صحيح أن الطفرات تحمل عثراتٍ اجتماعية، لكن متى كانت الحضارة خالية من التحديات؟ قيمة الذكاء الاصطناعي تكمن في قدرته على دفع الأدب إلى آفاقٍ جديدة، لا في عيوبه العابرة، إنه ليس رفاهية، بل ضرورة فكرية في عالمٍ يتسارع بلا توقف، من يرفضه اليوم لا يختلف عمن رفض القلم حين كان الحجر أداة الكتابة، إنه ليس مجرد رفضٍ للتكنولوجيا، بل تمردٌ على الزمن نفسه.
فليستمر المنتقدون في سخريتهم، يتشبثون بأدواتٍ بالية، أما الأدباء، فسيمضون قدمًا، يستخدمون الذكاء الاصطناعي ليصوغوا قصائد تُضيء الروح، ورواياتٍ تُعيد تعريف الإنسانية.
وفي الحقيقة، أستمتع أكثر بقراءة النصوص التي تمزج بين دقة الذكاء الاصطناعي وروح الكاتب الحقيقية،
حين أرى سلاسة الجمل، وتوازن الصياغة، ونقاء اللغة، دون أن تغيب النبرة الإنسانية، أشعر أنني أقرأ نصًا حيًّا، عقله مصنوع بإتقان، وقلبه لا يزال ينبض.
بل إني، في كثير من الأحيان، أستطيع من أول السطور تمييز النص الذي كُتب أو صُقل بالذكاء الاصطناعي عن ذاك الذي لم يُمسّ؛ كأن في النسيج اللغوي إشارات خفية، ترتيب غير اعتيادي، أو استعارة أنيقة لا تُولد صدفة، أو هدوء نحوي يشي بأن هناك يدًا ثالثة أمسكت بالقلم.
فالذكاء لا يُلغي الكاتب، بل يمنحه مرآة يرى بها نصه على نحو أوضح، ومِسنانًا يشحذ به لغته لتكون أصدق وأصفى.
والإبداع ليس في الأداة، بل في الروح التي تُحركها، والذكاء الاصطناعي؟ إنه المرآة التي تُظهر أعمق ما فينا، والجناح الذي يحمل الأدب إلى المستقبل.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
8/5/2025م