على درب السلام، أين تقف الوعود؟ – بوتان زيباري

في أعماق الأحداث السياسية، حيث تتشابك الخيوط وتلتقي الرغبات، تنبثق الأسئلة العميقة مثل نبتاتٍ بين صخور الزمن. فمتى كانت السياسة إلا مرآةً لآمال الشعوب وآلامهم؟ ومتى كانت الكلمات الحاكمة إلا رؤى متقطعة تسبح في محيطات المعاني؟ “سلاحٌ يُسقط، وأملٌ ينهض”، هكذا يعلن الرئيس أردوغان، معلنًا بلسانه عن مفترق طريقٍ حاسم: “اليوم أو غدًا، PKK ستضع سلاحها”. ليس مجرد إعلان عن وضع نهاية، بل بداية لقصةٍ جديدة، ونافذة لآفاقٍ قد تشرق أو قد تظلم.

إنَّ ما يراه بعضُهم تطورًا تاريخيًا، قد يكون بالنسبة للآخرين انقلابًا وجوديًا. تلك الجملة العابرة، التي تسربت إلى الأذهان في لحظةٍ حاسمة، تحمل من التحولات ما لا يُقال، وتعد بحلٍّ لا نعرف إن كان سيؤتي ثماره أم سيكون كالسراب، يوهم بحلولٍ ولا يحملها. فإذا كان لكل كلمة وزنٌ، فكيف إذا كانت هذه الكلمة هي ما سيحدد ملامح المستقبل؟ إذًا، تلك اللحظة لا تُقرأ فقط بين السطور، بل تراقبها الأعماق المظلمة للأفق، الذي لا تعرفه عينٌ في البداية.

لكن، دعونا نرتحل بعيدًا عن الوعود المبهمة والبيانات الجافة. هل تكمن الحرية في عبارات السلام فقط، أم في الأفعال التي تنبع منها؟ “سلامٌ” ليس شعارًا يُرفع بل جسرٌ يُبنى على هوةٍ سحيقة، والذين يعبرونه سيختبرون حقيقة هذا السلام قبل أن يطأوا طرفه. فإنَّ التراجع عن الأيديولوجيا لا يعني الخلاص منها، والابتعاد عن السلاح لا يعني إعادة بناء حياة جديدة، بل هو تحوّلٌ عميق يتطلب ابتكارًا في الفكر وتحوّلًا في النفس.

في عمق هذا التحوّل، تأتي الجولات السياسية لتؤكد أن السلام ليس مجرد نتيجة لقرارٍ فوقي، بل هو صراعٌ داخلي أولًا، مع النفس ومع التاريخ. فأيُّ قرارٍ سيُتخذ في قاعات المؤتمرات سيواجهه ميدانٌ أوسع: ميدان الذاكرة الجمعية للشعب الكردي، الذي لا ينسى جراحه ولا يفرّط في قيمه. فهل سيكون السلام بين يدي المفاوضات السياسية فقط؟ أم أن هناك عالمًا أوسع يتقاطع فيه السياسي مع الفلسفي، والوجودي مع التاريخي؟ هل ستظل البنادق صامدةً على حواف الجبال، أم ستبقى الذكريات معلقّة في أفقٍ ضبابي لا يُحل؟

ومن هنا، يبرز السؤال الأكبر: هل السلام فعلاً كائنٌ يحتاج إلى كلمات لتأسيسه، أم أن السلام هو الجرح الذي يحتاج إلى زمنٍ طويل لشفائه؟ وإن كانت الحروب قد اتخذت صورًا جديدة، فما الذي سيفعله السلام فينا إذا وصلنا إليه؟ هل سيظل هو الآخر صورةً مشوّهة لأحلامٍ كبيرة، أم سيتجسد كواقعٍ متينٍ؟ السّلام، كما الجرح، لا يتعافى بسهولة، بل يحتاج إلى إرادة حقيقية في التغيير.

ورغم أن الخطوات التي نراها اليوم قد تكون مجرد ردود فعل على تصريحاتٍ وتصريحاتٍ مضادة، إلا أنها في الحقيقة جزء من تاريخٍ طويل قد مرَّ على مرّ الزمان. إذ كل خطوة نحو التغيير هي مجرد بداية، بداية لفهم أعمق للذات والشعوب، بداية لفهم مَنْ نكون، وإلى أين نذهب. فإذا كان السلام سيأتي، فسيكون مرهونًا بإرادةٍ جماعية تُنير الدروب، وتملأ الساعات المقبلة بآمالٍ جديدة، تمامًا كما يشرق الفجر بعد ليلةٍ طويلة، ليكشف عن عالمٍ جديد، ينبض بالسلام الحقيقي.

فهل نرنو إليه الآن؟ أم أن مسار السياسة يظل لعبةً من الألغاز، لا يمكن حلّها إلا بخطواتٍ شجاعةٍ لا تعرف التراجع؟ الحقيقة الوحيدة التي قد نتفق عليها هي أن الطريق إلى السلام لن يكون مفروشًا بالورود، بل هو طريقٌ طويل تتخلله عثرات، ويتخلل عثراته همساتٌ من أملٍ قد يشرق في الأفق، أو يغيب في الأرجاء.

بوتان زيباري

السويد

09.05.2025

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *