في التاريخ السياسي، كما في تفاصيل المأساة الإنسانية، لم يكن “السلام” كلمة بريئة دومًا. فثمة سلام يولد من تحت ركام البنادق والدموع، وسلام آخر يولد من رحم الخيانة والتخاذل، يصفّق له السادة وهم يخطّون وثائقهم على طاولة طويلة وباردة، بينما في الخارج يتكئ الشهداء على ذاكرة مكسورة.
الحديث عن “السلام السياسي” يحتم علينا التمييز بين أنواعه، لأن لا سلام يشبه الآخر، كما أن لا حروب تتساوى في عدالتها أو نتائجها.
أولاً: سلام الشجعان
هو ذلك النوع من السلام الذي يختاره الطرفان المتصارعان بعد أن يبلغا قناعة عميقة أن الحرب لم تعد طريقًا للحل، وأن الكرامة لا تُصان بالدم وحده بل بالاعتراف المتبادل، والإصغاء لعقل الشعوب.
في هذا النوع من السلام، تُنتزع الحقوق لا تُشترى، ويقوم على شجاعة اتخاذ القرار لا على الرضوخ، وعلى اعتراف متبادل بالوجود والمصالح والمظالم. لقد جُسّد هذا السلام في تجارب عالمية مثل اتفاقية “Good Friday” في إيرلندا الشمالية، أو تجربة نلسون مانديلا في جنوب إفريقيا، حيث لم يُطلب من المظلوم أن ينسى، بل أُعطي الحق في أن يُذكر ويُحترم.
ثانيًا: سلام التخاذل
هذا هو السلام المفروض من الأعلى، حين يطلب من الطرف الأضعف أن يُعلن استسلامه باسم الواقعية السياسية، دون أن يحصل على أدنى مطالب العدالة أو الاعتراف. سلام تكتبه البنادق الغالبة على الطاولات، ويُفرض على الشعوب المغلوبة.
سلام التخاذل هو حين يُطلب من الضحية أن تُصافح الجلاد، ثم يُطلب منها أن تشكره على الفرصة، وتسير خلفه إلى مستقبل غامض خالٍ من الكرامة. وهو ما يُمارس اليوم في كثير من مناطق النزاع، حيث تُفرض اتفاقيات اسمها سلام، وجوهرها سحق بطيء لروح القضية.
ثالثًا: سلام الضرورة
هناك نوع ثالث، يُمكن تسميته بـ”سلام الضرورة”، حين تكون الظروف الإقليمية والدولية أكبر من قدرة الأطراف المتنازعة على الاستمرار في القتال، فيجد الطرفان أو أحدهما نفسه مضطرًا لعقد اتفاق مؤقت، ليس عن قناعة بل عن اضطرار. وغالبًا ما يكون هشًا، ويُفخّخ من الداخل، ويُكسر عند أول منعطف.
- سلام الشجعان أم خيانة السلاح؟ حالة حزب العمال الكردستاني (PKK)
من أكثر النماذج تعقيدًا في تقييم طبيعة “السلام السياسي” هو النقاش حول مستقبل حزب العمال الكوردستاني (PKK) وموضوع إلقائه السلاح. فهذا الحزب، رغم تصنيفه الدولي كتنظيم مسلح، شكّل لعقود رمزًا لنضال جزء من الشعب الكوردي في تركيا، ومثّل بالنسبة لأنصاره مقاومة ضد التهميش والإنكار القومي.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن : هل حل الحزب أو تخليه عن السلاح يمكن اعتباره “سلام الشجعان”؟
إذا كان الحل السياسي نابعًا من مفاوضات عادلة، تتضمن اعترافًا دستوريًا بحقوق الشعب الكوردي، وتفتح باب المشاركة السياسية والثقافية واللغوية، حينها يمكن وصف ذلك بسلام الشجعان؛ سلام يُبنى على شجاعة القرار، لا على هزيمة السلاح.
أما إذا فُرض على الحزب التخلي عن سلاحه تحت الضغط العسكري والسياسي فقط، دون مقابل واضح، دون إصلاحات جوهرية أو اعتراف حقيقي بحقوق الكورد، فهنا لا نكون أمام سلام بل أمام استسلام مغلّف، قد يُوصف بأنه سلام التخاذل أو “هدنة الخضوع”، لا أكثر.
يبقى السؤال الأهم:
هل السلام يُقاس بتوقف البنادق..؟. أم بالعدالة التي تُبنى بعدها..؟.
في الحالة الكوردية، يصرّ كثيرون على أن السلاح لم يكن خيارًا بل نتيجة، وأن التخلي عنه يجب أن يوازيه مشروع سياسي جاد، لا مجرد نداءات فارغة من المؤسسات الرسمية التركية.
الختام: ليس كل سلام سلامًا
في النهاية، لا يمكن أن نتعامل مع مفهوم “السلام” كمفهوم مطلق. فبين سلام الشجعان الذي يُبنى على العدل والمصالحة، وسلام التخاذل الذي يُبنى على القمع والتجاهل، هناك خيط رفيع يفصل الكرامة عن الهزيمة، والمستقبل عن التصفية.
فليكن شعارنا دائمًا:
السلام الحقيقي هو الذي يُنهي الحرب من الجذور، لا الذي يُجمّدها حتى إشعار آخر.
13-5-2025