كنت أظن في السابق بأن حياة العزلة مجرد حالة مزاجية يقررها الفرد ليعيش معزولاً عن الناس بسبب ظروف معينة لكنني استغربت عندما بحثت وعرفت بأن للعزلة أساس ديني وأساس فلسفي وأساس اجتماعي وقانوني وحتى أساس صحي في بعض الأحيان ، ففي كل جانب من هذه الجوانب نجد مبررات العزلة وأهميتها ومتى وكيف تتم العزلة ، أما في التركيبة الطبيعية لبعض الكائنات هناك حالات السبات المعروفة علمياً والتي تمر بها هذه الكائنات الحية هي بالحقيقة عزلة اجبارية كجزء من دورة الحياة ، أما في الفلسفة فقد كان للعزلة نصيب من الرأي عند الفلاسفة ، جاء على لسان بعض الفلاسفة بأن لا كمال للعقل إلا بالعزلة والوحدانية فيما راح آخرون على اعتبار العزلة موت بطيء ، الفيلسوف الألماني فرديريك نيتشة يقول ( الوحدانية هي وطني ) فيما تقول الأم تيريزا ( الوحدانية أفظع أنواع الفقر ) رغم تباين الآراء إلا أن غالبية الفلاسفة يعتبرون العزلة سمو عقلي ، القليل جداً يذمون العزلة ويمقتونها . في الجانب الديني هناك نوعين من العزلة حسب النصوص الدينية ، عزلة عبادية أو ما يسمى بالإعتكاف وهي عزلة يقررها المؤمن ليعيش لحظات الخلوة مع الله ، والعزلة الاجتماعية كما جاء في الآية ( فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله ) بمعنى العزلة عن المجتمع المختلف عقائدياً عن عقيدة المؤمن بالله هي عزلة واجبة وآيات كثيرة تتحدث عن العزلة حفاظاً وخوفاً على الدين ، وكذلك الحال في الجانب الطبي قد يضطر الطبيب لعزل المريض عن الناس خوفاً عليه من التلوث الخارجي أو احياناً خوفاً على المجتمع من المريض الذي قد يحمل فايروساً معدياً . السجون هي عزلة إجبارية للسجين حفاظاً على المجتمع من خطر السجين إضافة إلى إنه عقاب رادع . بغض النظر عن نوع العزلة وأسبابها فهناك حقيقة ثابتة وهي أن المبدعين في الحياة هم الأقل اختلاطاً بالناس والأكثر ميلاً للوحدانية والعزلة ، فكل صاحب فكر رائع لا يستطيع أن يكون بمستوى عامة الناس في التفكير والتعايش فيضطر للعيش بوحدانية ليس كرهاً بالناس وإنما إقراراً بما يراه من علو أفكاره التي سيصب نفعها للناس في نهاية المطاف لأن ما يبدع به لاحقاً من أفكار كبيرة ستكون ثروة للمجتمع وللإنسانية . . الوحدانية والعزلة فيها مرارة لا تُطاق وقد تصل حد الإكتئاب لذلك فهي ليست خيار الضعفاء من الناس وإنما هي خيار الأقوياء الواثقون من أفكارهم الراسخون بمعتقداتهم المحبون لأوطانهم ولمجتمعاتهم ، فلا يوجد إنسان طبيعي تمام العقل يعزل نفسه عن الناس لمجرد العزلة بل لابد أن يشعر بأنه من خلال العزلة والوحدانية تتفجر إبداعاته وطاقاته التي ستفيض في خيرها عطاءاً لمجتمعه . هناك فارق كبير بين الإنسان الذي يقرر الإنهزام من الواقع ومن المجتمع من خلال العزلة وبين الإنسان الذي يعيش بكل أحاسيسه مع المجتمع وهو الحاضر المتواجد في ضمائر وعقول الناس من غير حضور جسده ، الأول يعاقب نفسه بينما الثاني يعز ويكرم نفسه لكن في الظاهر كلاهما اختارا العزلة ، المجتمعات المغلوبة على أمرها في حاجة ماسة إلى الصنف الثاني وبدونهم لا حياة للمجتمع وأستطيع تشبيه الصنف الثاني بالجندي المجهول ذلك المقاتل الذي ينسب إليه النصر في ساحة المعركة ويخلد ذكراه وهو مجهول الهوية ، نعم مجهول الهوية بجسده لكن بعطائه ينسب إليه كل الفضل وهذه سنة الحياة أن تكون للأخيار بصمة خير في الحياة لكنهم غير مرئيون . فلا خير في عزلة ووحدانية لم تثمر عن خير وعطاء للناس .