كوردستان بين تعقيدات الإقليم وتحولات الجوار
في خضم تحولات إقليمية متسارعة، يبدو أن الحزب الديمقراطي الكوردستاني، بقياداته الفاعلة ومؤسساته السياسية، يتحرك بديناميكية هادئة لكنها عميقة، تجمع بين الواقعية السياسية والرؤية القومية، وبين الانفتاح الإقليمي والحفاظ على الثوابت الوطنية. من قمم دافوس إلى مؤتمرات بغداد، ومن باريس إلى طهران، ومن أنقرة إلى قامشلو، لا يبدو هذا الحراك إلا ترجمة حية لمسؤولية وطنية يعمل لأجلها الحزب ليل نهار، مستثمرًا العلاقات الممتدة والتجربة المتراكمة، خدمة للقضية الكوردية في العراق وسوريا والمنطقة عمومًا.
نيجيرفان بارزاني… دبلوماسية متقدمة في توقيت حرج
شهدت الآونة الأخيرة نشاطًا خارجيًا لافتًا لرئيس إقليم كوردستان السيد نيجيرفان بارزاني، الذي كرّس نهج الحزب الديمقراطي الكوردستاني القائم على الاعتدال والانفتاح. حضوره في القمة العربية الأخيرة، وزيارته الرسمية إلى طهران، وتحركاته الدائمة في أوروبا، وعلى رأسها علاقاته الوثيقة مع باريس، تعكس جهدًا دؤوبًا لوضع القضية الكوردية ضمن إطارها السياسي والدبلوماسي المتوازن.
ولعل زيارته الأخيرة إلى إيران، بدعوة رسمية من الرئيس الإيراني، شكّلت محطة مهمة في إعادة تموضع الإقليم ضمن الجغرافيا المعقدة للمنطقة. فبدلًا من القطيعة أو التصعيد، فضّل الحزب الديمقراطي الكوردستاني سياسة “فتح النوافذ لا غلق الأبواب”، بما يسمح بالحفاظ على استقرار الإقليم وتعزيز موقعه كمركز توازن لا صدام.
الحضور إلى بغداد… دبلوماسية الجسر بين المركز والإقليم
في سياق موازٍ لزياراته الإقليمية، لبّى الرئيس نيجيرفان بارزاني دعوة رسمية للمشاركة في مؤتمر استراتيجي عُقد في بغداد، وهو ما عُدّ خطوة دبلوماسية رمزية وفعالة تؤكد على التزام إقليم كوردستان بالعمل ضمن الإطار الاتحادي للعراق، مع الحفاظ على خصوصيته الدستورية. هذا الحضور لم يكن بروتوكوليًا فحسب، بل جاء ليجسد سياسة الحزب الديمقراطي الكوردستاني في بناء جسور التعاون بين المركز والإقليم، وتثبيت مبدأ الشراكة السياسية لا التبعية، في لحظة تحتاج فيها العملية السياسية العراقية إلى أطراف مسؤولة تضع مصلحة العراق فوق الحسابات الضيقة.
فرنسا وأوروبا… عمق داعم لا يُستهان به
من باريس التي زارها مرات عدة، إلى بروكسل ودافوس، حيث التقى الرئيس الفرنسي ماكرون والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، سعى نيجيرفان بارزاني إلى تعزيز حضور كوردستان في المحافل الدولية. هذه العلاقات ليست ترفًا دبلوماسيًا، بل تمثل استثمارًا استراتيجيًا في دعم التجربة الكوردية، وإشراك المجتمع الدولي في حمايتها وتطويرها.
مسرور بارزاني… تثبيت الاستقرار وتعزيز التنمية
بالتوازي، يقود رئيس حكومة الإقليم السيد مسرور بارزاني جهودًا حثيثة في الداخل لضمان الاستقرار الأمني والمالي، ومواجهة التحديات الخدمية والسياسية، بما يعكس وجهًا آخر لسياسات الحزب الديمقراطي الكوردستاني، تجمع بين الدبلوماسية الخارجية والإصلاح الداخلي.
رسالة الرئيس مسعود بارزاني إلى كورد سوريا… دعم ثابت ومبادرة ناضجة
في ظل الجمود السياسي الذي تعانيه الساحة الكوردية السورية، أرسل الرئيس مسعود بارزاني ممثلًا رسميًا إلى مدينة قامشلي، ناقلًا رسالة دعم إلى الشعب الكوردي في غرب كوردستان. هذه الخطوة، التي تُعد امتدادًا لمواقف الرئيس بارزاني التاريخية، تحمل رمزية عالية، وتؤكد أن كورد العراق لا يرون أنفسهم بمعزل عن إخوتهم في كوردستان سوريا، بل يسعون لتقريب وجهات النظر وتحقيق وحدة الموقف.
تركيا… التوازن الصعب والفرصة الممكنة
تحتفظ قيادة الحزب الديمقراطي الكوردستاني بعلاقة حذرة ومتينة مع الدولة التركية، تقوم على المصالح المتبادلة والتفاهمات الأمنية والاقتصادية. وفي هذا السياق، يُذكر الزيارة التاريخية لوفد ” دام” الذي اجتمع بالرئيس مسعود بارزاني من قبل زعيم حزب العمال الكردستاني (PKK) عبد الله أوجلان، حين وجّه الأخير رسالة صريحة دعا فيها إلى المصالحة بين الشعبين الكوردي والتركي، والتخلي عن العمل المسلح لصالح النضال الديمقراطي.
هذه الرسالة، التي جاءت في لحظة سياسية دقيقة، لم تكن لتخرج إلى العلن لولا القناة المفتوحة والثقة التي تحظى بها شخصية الرئيس بارزاني. واليوم، بعد إعلان حزب العمال عن التوجه نحو إنهاء العمل المسلح في مؤتمره الثاني عشر، تبرز من جديد أهمية ذلك اللقاء، وما مثّله من رؤية استباقية نحو حل سلمي للقضية الكردية في تركيا.
رفع العقوبات عن سوريا… اختبار جديد لوحدة الرؤية
التحول المفاجئ في الموقف الدولي والعربي تجاه النظام السوري، وما رافقه من رفع تدريجي للعقوبات، يضع القوى الكردية، وعلى رأسها الأحزاب المنضوية في “مسد”، أمام فرصة تاريخية لإعادة ترتيب صفوفها، والانخراط في مشروع وطني شامل، يكون للكرد فيه شراكة حقيقية.
لقد دعت اللجنة المركزية للحزب الديمقراطي الكوردستاني إلى اعتبار هذه اللحظة مناسبة لإعادة بناء سوريا على أسس جديدة، قوامها العدالة واللامركزية والمشاركة السياسية، مع التأكيد على ضرورة أن تقدم القوى الكردية مبادرات ناضجة تعبّر عن تطلعات الشعب الكردي وتراعي موازين القوى الواقعية.
خاتمة: دبلوماسية كوردية بحجم المرحلة
ليست الأحداث منفصلة عن بعضها، ولا يمكن فهم هذا الحراك المتعدد الوجوه بدون قراءة الخلفية السياسية العميقة التي تقف وراءه. فالحزب الديمقراطي الكوردستاني، بحكم تاريخه ونضاله ومكانته، يواصل أداء دور مركزي في صياغة ملامح مستقبل الكورد، ليس في العراق وحده، بل على امتداد الجغرافيا الكوردية.
وبينما تتزايد التحديات، من الفقر والبطالة إلى التهديدات الأمنية والتغيّرات الإقليمية، فإن الاستراتيجية التي تعتمد على الشراكة، والانفتاح، والعمل الواقعي، تبقى الخيار الأنجع لضمان حقوق الكورد، واستقرار كوردستان، ومكانة الكورد كشعب يسعى للحرية والسلام ضمن خرائط مضطربة.
- ماهين شيخاني .