في توقيت سياسي بالغ الدلالة، نشر وزير الخارجية الأمريكي السابق مايك بومبيو مقالًا نادرًا من نوعه، دعا فيه بوضوح غير معتاد إلى دعم القضية الكوردية بوصفها قضية محورية في مستقبل الشرق الأوسط، وركنًا أساسيًا من أركان أمن الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل. ما قاله بومبيو لم يكن فقط خطابًا عاطفيًا، بل رؤية استراتيجية تعكس تحوّلًا ملحوظًا في طريقة تناول النخب السياسية الأمريكية لهذا الملف الذي طالما وُضع في هامش المصالح الأمريكية، رغم تضحيات الكورد المتواصلة في محاربة الإرهاب، ودورهم الفعّال في حفظ التوازن الأمني في منطقة تمزقها الصراعات.
لكن اللافت في الموقف الأمريكي، أنه لم يعد صوتًا منفردًا. فقد فاجأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الرأي العام قبل أسابيع، بتصريح صريح أقر فيه بأن “الكورد شعب يعيش في أربعة أجزاء، وله الحق في تقرير مصيره”. لم يكن هذا التصريح عبثيًا، بل جاء ضمن سياق تحولات استراتيجية في الموقف الروسي، والذي بدأ يرى في الكورد عاملًا توازنيا في المشهد السوري والعراقي، ولاعبًا يمكن توظيفه في إعادة بناء توازن إقليمي جديد.
هذه التصريحات المتقاربة، وإن اختلفت في الدوافع والسياقات، تعكس إجماعًا دوليًا متزايدًا بأن القضية الكوردية لم تعد مجرّد ملف ثانوي، بل تحولت إلى أحد المفاتيح الأساسية في معادلة الشرق الأوسط المقبلة.
المؤشرات على هذا التحول لا تقتصر على التصريحات، بل تتجلى في الواقع السياسي والاقتصادي:
- تصريحات وزير خارجية أمريكا، ماركو روبيو، التي طالب فيها بإشراك الكورد في الحكومة السورية الانتقالية، بوصفهم مكوّنًا وطنيًا لا يمكن تجاوزه في أي مشروع ديمقراطي مستقبلي.
- الحراك الداخلي في تركيا، الذي بدأ يفتح نقاشات غير معلنة حول تعديل الدستور بما يسمح بهامش أوسع من الحقوق للكورد، في ظل فشل السياسات القمعية المتواصلة منذ عقود.
- الاهتمام الدولي المتصاعد بالإدارة الذاتية في غربي كوردستان (شمال وشرق سوريا)، والتي بات يُنظر إليها كنموذج للحكم المحلي المستقر، والقادر على التعايش، وإدارة شؤون شعبه، والمطالبة بإشراك الكورد في الحكومة، وكتابة الدستور السوري.
- الصفقات الاقتصادية والأمنية غير المسبوقة بين إقليم كوردستان والولايات المتحدة، وعلى رأسها صفقة النفط التي تتجاوز قيمتها 110 مليار دولار على مدى عشر سنوات، رغم اعتراضات بغداد، إلى جانب اتفاقيات أمنية لتدريب قوات البيشمركة والدفاع الداخلي. جاءت أيضًا في سياق زيارة رسمية استثنائية لرئيس وزراء إقليم كوردستان الفيدرالي، السيد مسرور برزاني، إلى الولايات المتحدة. وقد عكست هذه الزيارة اهتمامًا لافتًا من قبل الإدارة الأمريكية ووزاراتها المختلفة، حيث جرى استقباله في مستويات رفيعة، وشهدت الزيارة توقيع عدد من التفاهمات المهمة، ما يشير إلى تحول نوعي في العلاقات بين واشنطن وهولير، نحو شراكة استراتيجية مستدامة تتجاوز الظرف السياسي المؤقت.
كل هذه المؤشرات، حين توضع في سياقها الجيوسياسي، تفضي إلى نتيجة واضحة، هناك نضج دولي متسارع في إدراك أن الكورد لم يعودوا مجرد ضحية، بل أصبحوا شريكًا سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا لا يمكن القفز فوقه. ومع تعثر التفاهمات مع إيران، وتفاقم الأزمات في العراق وسوريا ولبنان، يبدو أن الكورد باتوا في نظر القوى الكبرى أحد أعمدة بناء الاستقرار، لا تهديدًا له.
وهنا يصبح الحديث عن حق تقرير المصير للكورد، ليس مجرد مطلب حقوقي مشروع، بل خيارًا استراتيجيًا للغرب لإعادة هندسة المنطقة بطريقة أكثر توازنًا، حيث تُوزَّع السلطات على أسس تعددية، وتُبنى الدول من جديد على عقد اجتماعي يحترم كل مكوّن.
من هنا، فإن تعويم القضية الكوردية لم يعد مجرّد تحرك دبلوماسي طارئ، بل ملامح لتحول تاريخي قد يُعيد رسم حدود التأثير والنفوذ في المنطقة، وإذا كان من شيء واضح اليوم، فهو أن الشرق الأوسط الجديد، إن كُتب له أن يولد، فلن يولد إلا من رحم الاعتراف بالكورد، وإعادة الاعتبار لقضيتهم بوصفها جزءًا لا يتجزأ من معادلة السلام والعدالة.
لكن من الضروري التنبيه إلى أن كل هذا الزخم الدولي، رغم أهميته، قد يتعثر أو حتى يُجهَض، إذا لم يُقابل من الداخل الكوردستاني بمستوى من النضج السياسي والرؤية الفكرية التي تؤهله لالتقاط هذه اللحظة التاريخية، فالمجتمع الدولي، وإن أبدى استعداده لدعم الكورد، إلا أنه في النهاية سيبحث عن شريك جدير بالثقة، قادر على التعبير عن تطلعاته بلغة العصر، وعلى تقديم نموذج لحكم ديمقراطي عصري.
إن الحراك الكوردي والكوردستاني بحاجة ماسة إلى مراجعة داخلية شاملة، تعيد ترتيب أولوياته، وتمنح الخطاب السياسي عمقًا يتجاوز الشعارات، كما أن على النخب السياسية والثقافية الكوردية أن تتجه بجدية إلى المنصات الدولية، وتُظهر للعالم أن الكورد لا يطالبون بدولة فحسب، بل يمتلكون من القدرة والخبرة ما يؤهلهم لإدارتها وفق معايير العصر والديمقراطية.
وفي هذا السياق، تبدو الحاجة ماسّة إلى دراسة سياسية معمقة تُفكك هذه التحولات، وتقاربها ليس من منطلقات عاطفية، بل عبر تحليل المصالح والتقاطعات الجيوسياسية الجديدة، وكيف باتت القضية الكوردية تتموضع تدريجيًا في قلب الاستراتيجيات الكبرى للقوى الفاعلة في الشرق الأوسط.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
23/5/2025م