لو أصاب القناص ترامب هل كانت أمريكا ستغزو العالم بالذكاء والتعريفة أم بالصواريخ؟- الحلقة الرابعة- د. محمود عباس

 

حين نطرح سؤالاً من نوع، ماذا لو قُتل ترامب؟ فنحن لا نتحدث عن شخص، بل عن مفصل زمني، تُختبر فيه صلابة البنية العميقة للنظام الأمريكي، ويتحدد فيه أي النسختين من الدولة ستنتصر، القديمة المستترة خلف مؤسساتها العسكرية–الاستخباراتية، أم الجديدة الناعمة التي تنطق بلغة الخوارزميات وتدير شؤون العالم من خلف شاشات بيضاء وأجهزة بلا وجوه؟

الحقيقة أن أمريكا، منذ سنوات، لم تعد دولة واحدة، بل مسرحًا لصراع طبقات سلطوية متداخلة، وما ظهر على السطح، في شخصية ترامب، لم يكن خروجًا على هذه السلطة، بل تجليًا لها في صيغة جديدة، الدولة العميقة العصرية لم تُرد ترامب لأنه سياسي، بل لأنه مزيج من السمات المطلوبة في زمن جديد، الصوت المرتفع، الارتجال المحسوب، العداء العلني للمؤسسة التقليدية، والقدرة على تحريك الجماهير خارج قوالب النخبة، لقد كان يشبه الخوارزمية، لا يهتم بالبروتوكول، بل بالفعالية.

ولذلك، فإن موته المحتمل لم يكن ليُربك هذه المنظومة، بل كان سيفتح أوسع بوابات الصدام بين النسختين العميقتين لأمريكا، فالنظام القديم، المهزوز منذ أوباما، كان يرى في ترامب شبحًا يُفرغ الدولة من هيبتها، بينما كانت المنظومة الجديدة، وادي السيليكون، لوبيات البيانات، عمالقة الإعلام الرقمي، ترى فيه أداة جذرية لإعادة تشكيل العالم كما تُحب هي أن تراه، بلا أعراف، بلا ولاء تاريخي، بل بمصفوفات متغيرة من المصالح.

نماذج هذا الصراع بدأت بالفعل منذ سنوات، لكنها لم تكن مؤامرات في الظل بقدر ما كانت وقائع مرئية بأدوات غير تقليدية، حين قامت منصة تويتر بحظر حساب رئيس أمريكي لا يزال في منصبه، لم تكن تُمارس رقابة سياسية فحسب، بل سلطة تشريعية فعلية على المجال العام، لم تكن ترفض محتوى، بل كانت تعيد تعريف من يحق له الكلام ومن لا يحق له، في المقابل، كانت الدولة العميقة الكلاسيكية، من خلال أذرعها الأمنية والاستخباراتية، تردّ بإعادة تمركز قوتها في ملفات مثل الأمن السيبراني والهيمنة العسكرية على الفضاء الإلكتروني، تسريبات إدوارد سنودن كانت لحظة صدمة كشفت أن لا أحد فوق المراقبة، وأن صراع العمق بات على من يملك الحق في التجسّس، لا على من يملك الحقيقة.

هذا الصراع لم يبقَ ضمن النخبة، بل انعكس داخليًا على طبيعة الهوية الأمريكية ذاتها، بدأ الاستقطاب الثقافي يعلو على السياسي، فصار المواطن الأمريكي لا يعرف فقط أنه جمهوري أو ديمقراطي، بل صار يعيش في واقعين مختلفين، واقع تصنعه المؤسسات، وواقع تُنسجه الخوارزميات، تلاشت الأرضية المشتركة، وظهر نوع جديد من الانقسام، لا على السياسات، بل على الوقائع ذاتها.

هكذا بدأ ما يشبه تفككًا ناعمًا في الدولة المركزية، الولايات الليبرالية تنفصل رمزيًا عن الولايات المحافظة، منصات الإعلام تفقد حيادها وتتحوّل إلى أدوات اصطفاف، التعليم، الثقافة، الاقتصاد، الأمن، كلها أصبحت مساحات اشتباك سلطوي غير مباشر، بينما المواطن العادي يتحول إلى رقم في قاعدة بيانات، يُعاد تشكيله سلوكيًا دون أن يشعر.

لكن الصراع لم يتوقف عند الداخل الأمريكي، فالحلفاء، أيضًا، شعروا بالارتباك، الاتحاد الأوروبي بدأ يدرك أن الهيمنة الأمريكية لم تعد تأتي من واشنطن فقط، بل من شركات التكنولوجيا الأمريكية التي تُعيد برمجة سلوك الأوروبيين عبر المحتوى والإعلان والسيطرة على الذوق، الناتو بات يعاني من ازدواجية القرار، هل يدار من البنتاغون، أم من أجندات الشركات التي ترى أن الأمن لا يُصان بالجيوش فقط، بل بتدفق البيانات والذكاء الصناعي؟

أما إسرائيل، ذلك الحليف الثابت، فقد كانت تجد نفسها قبيل محاولة الاغتيال في موقع بالغ الحساسية؛ إذ ظلت الدولة العميقة الكلاسيكية تُراهن عليها بوصفها شريكًا استخباراتيًا راسخًا ضمن تحالفات تقليدية ممتدة، بينما نظرت الدولة العميقة العصرية إليها كأداة تقنية في معادلة النفوذ، لا كامتداد جيوسياسي دائم، بل كوظيفة مرنة داخل شبكة الهيمنة الجديدة التي تعيد واشنطن تشكيلها بلغة الشيفرات لا عبر الخرائط.

والخليج؟ وجد نفسه يفاوض على مواقفه بين قوتين، الأولى تطلب منه شراء الأسلحة، والثانية تطلب بيانات المستخدمين، صارت واشنطن أكثر من مركز قرار واحد، وكل مركز يضع شروطًا مختلفة للتحالف.

وفي كل ذلك، يبقى السؤال معلّقًا، إن كانت الدولة العميقة العصرية تكتب الآن دستور الهيمنة القادم، فما مصير الدولة القديمة؟ وهل تنحني، أم تتكسر؟ وهل تموت الإمبراطوريات بالفعل، أم أنها تُنسخ في شكل جديد، أكثر نعومة، وأكثر بطشًا؟ كحظر حساب رئيس منتخب من منصات رقمية، أو تسريب وثائق أمنية تُربك سياسة الدولة، أو تدخلات استخباراتية تقابلها تسريبات صحفية موجهة، كل طرف كان يملك أدواته، وكل ساحة، من إكس، تويتر سابقاً، إلى البنتاغون، كانت ميدانًا لحرب باردة داخلية.

وجود ترامب اليوم يُسرّع، من جهة، انكشاف التشققات البنيوية في هرم السلطة الأمريكية؛ لم يُشعل حربًا أهلية بالمفهوم التقليدي، لكنه أطلق ما هو أخطر، صراعًا صامتًا بين طبقات السلطة، كلٌّ منها تزعم أنها الأجدر بإدارة الدولة، والأحق بإعادة تشكيل النظام العالمي. لم يعد الانقسام مرئيًا في الجغرافيا أو في الانتماءات الأيديولوجية، بل في طبيعة القرار ذاته، من يملك أحقية التأثير؟ ومن يُحدّد جدول القوة؟

ومن جهة أخرى، يسرّع وجوده نقل أمريكا والعالم إلى زمن جديد، تتقدمه التقنية، وتُديره الخوارزميات، حيث يصبح التطور المتسارع ذاته أداة هيمنة، لا مجرد مؤشر على التقدم.

وفي الداخل، بدأت الولايات المتحدة تنزلق تدريجيًا نحو فقدان مركزيتها الرمزية كنموذج عالمي لليبرالية السياسية؛ لم تعد الحاضنة الكبرى للقيم الديمقراطية، بل باتت مختبرًا مفتوحًا لتجريب أنماط سلطوية جديدة. في المقابل، أخذت الدولة التقليدية تخسر مواقعها لحساب شبكات التأثير غير المرئية، التي لا تُحاسب ولا تُنتخب، لكنها تُعيد تشكيل الواقع.

وقد بدأ هذا التحوّل يتجلى في الخطاب الثقافي، وفي بنية التعليم، وفي التشريعات، بل وفي طبيعة النقاش السياسي ذاته، الذي لم يعد يُعنى بالعدالة أو الحرية، بل بأدوات السيطرة، وأساليب إخضاع الإدراك الجمعي.

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

mamokurda@gmail.com

11/4/2025م

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *