الجهل، السلاح، والضياع… رسالة إلى عشيرة الهركية قبل فوات الأوان- بقلم: يحيى هركي – ألمانيا

مما لا شك فيه عندما تُذكر كلمة “العشيرة” في الوجدان العراقي والكردي، تقفز إلى الذاكرة صور من الكرم، والنجدة، والشهامة، والانتماء. العشيرة لم تكن مجرد رابطة دم، بل مؤسسة اجتماعية حافظت على الأمن، وحمت الضعيف، وأصلحت بين الناس، بل وكانت في يوم من الأيام بديلاً للدولة في أوقات الفوضى. ولكن، ماذا يحدث عندما تتحول هذه المؤسسة العريقة إلى عبء؟ عندما تطغى الجاهلية على الحكمة، ويعلو صوت السلاح على صوت العقل؟
هذا ما نحاول أن نناقشه اليوم، مستعرضين النموذج اللامع لعشيرة الهركية التي كانت وما زالت رمزًا للشرف والوفاء، ثم ننتقل بجرأة إلى التحديات التي تواجهها وبعض العشائر الكردية الأخرى في إقليم كردستان.
في التاريخ القريب، كانت عشيرة الهركية عنوانًا للثقة والنجدة، فقد فتحت أبواب قراها وأريافها لكل من ضاقت به السبل، خصوصًا في فترات القمع والحروب، لا سيما خلال الحرب العراقية الإيرانية. كان من يهرب من الخدمة العسكرية القسرية، أو من له ثأر أو مشكلة عشائرية، يجد الأمان بين أبناء هذه العشيرة. لم يكن هناك “بلاغات سرية”، ولا وشايات. كان الاحتماء بالهركية أشبه بوسام نجاة، لا يُسلم فيه اللاجئ حتى لو كلّف الأمر حياتهم.
ولا ننسى دور عشيرة الهركية في أنهم حفظوا اثنين من أحفاد الأب الروحي، البارزاني الخالد، من بطش النظام الصدامي السابق، في وقت كان فيه الجميع يتهرب أو يتخاذل.
بينما كانت بعض العشائر الأخرى تُضطر لمسايرة الضغوط، أو لم يكن باستطاعتها تأمين الحماية التامة بسبب قربها من المدن أو الانقسامات الداخلية، ظلت عشيرة الهركية جدارًا منيعًا، لا يخترقه الخوف ولا المساومة.
لكن للأسف، ما نشهده اليوم من نزاعات مسلحة بين بعض قبائل الهركية، خاصة في منطقة عقرة وقضاء خبات، يدمي القلب. صدامات دموية، استخدمت فيها حتى الأسلحة الثقيلة، دون الرجوع إلى شيوخ العشيرة أو الالتزام بالحكمة التي لطالما ميّزت هذا الاسم العريق.
هذه الأفعال لا تمس فقط سمعة من يقترفها، بل تشوّه صورة العشيرة كلها أمام العشائر الأخرى، وتفتح المجال لتشكيك الآخرين في مصداقية ذلك التاريخ النقي. المؤسف أكثر أن هذه الخلافات تتكرر دون أن يكون هناك موقف حازم من القيادة العشائرية العليا الرشيده، ودون أن يجد العقل مكانًا له في قلوب المتخاصمين.
إلى جانب ذلك، تبرز مشكلة خطيرة تهدد مستقبل العشيرة: تراجع التعليم وارتفاع نسبة الجهل. كثير من العائلات تمنع أبناءها وبناتها من الذهاب إلى المدارس، وفي الوقت نفسه، تحلم بالمناصب والنفوذ. فكيف يتساوى الجهل والطموح؟ كيف لعشيرة ألا تؤمن بالعلم، ثم تطلب قيادة مجتمع متغير؟
وما عشيرة الهركية وحدها من تواجه هذه التحديات، فقبل مدة قصيرة  وقعت مواجهة دامية داخل عشيرة الكوران، أودت بحياة شخصين ولولا تدخل الرئيس البارزاني لكانت المشكلة اليوم أكبر.
وتزداد النزاعات يومًا بعد يوم في مناطق مثل عقرة وقضاء خبات، مما ينذر بانفجار مجتمعي لا يُحمد عقباه إن لم يتم تداركه بحكمة. إننا لا ننتقد من باب الخصومة، بل من منطلق الحرص.
وإليكم بعض ما يمكن أن يكون خارطة طريق نحو الإصلاح:
– إحياء دور شيوخ العشائر الحقيقيين اي المرجع للهركيين الذين يعملون على جمع الكلمة لا تفريقها.
– فرض احترام القانون ومنع اللجوء إلى السلاح مهما كانت الخلافات.
– فتح مدارس نموذجية في القرى والأرياف وتشجيع التعليم، خصوصًا للفتيات.
– عقد مجالس عشائرية دورية بإشراف القانون لحل النزاعات الداخلية.
– إطلاق مبادرات إعلامية وثقافية تعزز قيم الصلح، وتنشر الوعي، وتنبذ الجهل.
– والاعتراف بالأخطاء بشجاعة، لأن الكبرياء الحقيقي في الرجوع إلى الحق، لا في الإصرار على الخطأ.
– ونبذ الجهل والعودة إلى الأخلاق الكردية الأصيلة القائمة على النخوة، الشهامة، والعدل.
– دعم الإعلام المحلي لنشر الوعي حول مخاطر الاقتتال العشائري وتأثيره على سمعة العشيرة ككل.
– ثم يجب أن تكون الدولة المرجعية العليا، ويُمنع أي شكل من أشكال العدالة العشائرية التي تناقض القانون المدني.
– ودعم الخطباء والدعاة الذين يدعون إلى السلم الاجتماعي ويحاربون الجاهلية القبلية.
الخلاصة:
يا أبناء العشيرة الهركية، يا أبناء الكرامة والوفاء، لقد ورثتم اسمًا لا يقدّر بثمن. حافظوا عليه كما حافظ عليه آباؤكم في أصعب الظروف. لا تسمحوا للغضب أن يسرق منكم مجدكم، ولا تسمحوا للجهل أن يعميكم عن رؤية الطريق.
إن ما يصيب عشيرتكم، ينعكس على جميع العشائر، بل على المجتمع الكردي بأسره. فلنكن صادقين مع أنفسنا، ولنبدأ من الداخل، بإصلاح ما فسد، وردم الهوة بين القبائل، والعودة إلى أخلاق الأبطال الذين صنعوا من اسم “الهركية” ملاذًا وملحمة.
وإلى كل من يقرأ هذا المقال: الإصلاح لا يبدأ من الحكومات، بل منّا نحن. من عقولنا، من مدارسنا، من وعينا، ومن شيوخنا ومراجعنا الكرام الذين نثق في حكمتهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *