انفصال المعنى عن الفعل الإنساني: المأساة الصامتة للمجتمع الحديث – بوتان زيباري

ليست مأساة الإنسان المعاصر مقتصرة على الفقر أو الاستبداد، ولا على أروقة السياسة أو متاهات الاقتصاد؛ بل تسكن في الأعماق، حيث ينفصم الكائن عن جوهره، وتتفكك الصلة بين فعله وبين عالم القيم والمعاني والمعتقدات التي من المفترض أن تهديه. وربما تكمن مفارقة عصرنا الكبرى في أن الإنسان يبدو وكأنه يفعل ما يجب، لكنه لم يعُد يدري لماذا يفعله… أو لم يعُد يشعر بشيء على الإطلاق.

  1. الزواج في زمن فقدان الحب: كيف تلتهم التقاليد ما تبقى من العشق؟

كان الزواج، عبر التاريخ، لقاءً لا يجمع جسدين فحسب، بل سلالتين، عائلتين، وأحياناً طبقتين اجتماعيتين. أما اليوم، فقد أُفرغ من نداءاته الوجودية، من حرارة الحب أو شغف الاكتمال. صار استجابةً باهتة لتوقعات المجتمع وضغوط الاقتصاد. تتلاقى الأجساد على طاولة العقد، بينما الأرواح تلوذ بالصمت، وقد تفترق دون أن تغادر المكان. وكل زواج يُبنى على فراغٍ عاطفي هو في جوهره تضخيمٌ لوحدة الفرد، لا نقيضها.

  1. فجوة بين الإنجاب والاستثمار الثقافي: أطفال بلا مرجعية

إنجاب الأطفال ليس مجرد عملية بيولوجية، بل هو تسليم شعلة التاريخ، وبذل للهوية، وتكريس للأخلاق. لكننا في زمن أصبحت فيه الأبوة والأمومة امتدادًا لاختلال طبيعي لا يرافقه وعي. أن تربي طفلًا يحتاج زمناً وحكمة، أما أن تنجبه فليس أكثر من لحظة. في هذا الانفصام، يُترك الجيل القادم في مهب الضياع، بلا دليل ثقافي، بلا بوصلة أخلاقية… كأشجار نبتت دون جذور، في أرض لا تعرف الفصول.

  1. الارتفاع المعماري والانهيار الفكري

نبني الأبراج، ولا نبني الإنسان. ترتفع الخرسانات، وتنهار خرائط المعنى. وهنا يبرز الفارق بين “التمدن” و”التحضر”: فالأول معنيٌّ بالهيكل، والثاني بالجوهر. المدينة الحديثة شامخة، لكنها مجوفة؛ مترفة، لكنها عمياء. إنها سقوط عمودي، لا يُرى بسهولة، لكنه يمزق أرواح ساكنيها دون صوت.

  1. حين تتحول العبادة إلى عادة: انطفاء النور المقدس

الإيمان نغمة داخلية تهتز في أعماق الإنسان، تهديه وتطمئنه. لكن حين تتحول العبادة إلى عادةٍ ميكانيكية، تفقد الصلاة جوهرها، ويتحول الدين إلى استعراض. يصلي المرء، بينما قلبه عالق في صخب السوق، يهمس بالدعاء لكن روحه في غيبوبة. وهكذا يُقصى الله من مركز الحياة، ولا يبقى سوى القالب الخالي. يتحول الدين من رسالةٍ تحرر الضمير، إلى طقسٍ يخرسه.

  1. العمل كفعل اغتراب: متى أصبح الجهد عبئاً لا تحقيقاً للذات؟

العمل ليس فقط كسباً للعيش، بل ميدانٌ لتحقيق الذات واكتشافها. غير أن العمل اليوم، وقد نُزعت منه الروح، تحوّل إلى طاحونة لا تتوقف. نكدح، لكننا لا نعرف لماذا. صار الجهد مرادفًا للإرهاق، لا للتحرر. وهنا يظهر الاغتراب بأوضح صوره: الإنسان صار غريبًا عن ما يصنعه، وما يُنتجه لا يُشبِهه. في مثل هذا المجتمع، لا يُحرِّر العمل الإنسان، بل يستنزفه ويستهلكه.

  1. تدهور الكلمة: سقوط اللغة في فخ اللا معنى

الكلمة عهد، واللغة وطن الروح. لكن حين يُقال الكلام بلا صدق، تُفرّغ المعاني من روحها. لم تعد الكلمات تُقرّب القلوب، بل تُستخدم سلاحًا في تزييف الحقيقة. تضيع الثقة وسط زينة البلاغة المصطنعة، ويتحول الخطاب إلى قناع. اللغة مرآة المجتمع، واليوم هذه المرآة مكسورة، وكسورها تعكس الانهيار الأخلاقي.

الخاتمة: المأساة لا تُروى بالكلمات، بل تُكتب بصمت الأفعال

ما تقدّم ليس سوى محاولة لتوصيف الهوة العميقة بين فعل الإنسان وحقيقته الباطنية. فليس المهم فقط أن نعمل، بل أن ندرك لماذا نعمل، وكيف نعمل. وإلا تحولت الأفعال إلى تكرارٍ أجوف، إلى تمثيلٍ بلا مضمون، إلى طقوسٍ بلا روح.

المجتمع الحديث يشبه جسراً آيلاً للسقوط، يمتد بين الفعل والإيمان، بين الشكل والجوهر، بين الجسد والروح. وحين ينهار هذا الجسر، ينهار معه كل شيء: تزداد الوحدة، وتتفاقم الغربة، ويضيع المعنى. إننا لا نعيش في دراما تصرخ، بل في مأساة تهمس… مأساة تُكتب بأيدينا، لكننا لا نقرأها، لأننا مشغولون بتكرار أفعال لم نعد نشعر بها.

هل رأيت مأساة أكثر صمتاً من هذه؟

بوتان زيباري

السويد

27.05.2025

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *