القصيدة المغناة هي قصيدة تغنى أو تلقى بإيقاع غنائي؛ من خلال صوت منغم يضيف بعداً جمالياً إلى النص الشعري؛ ما يجعل تأثيرها أوسع وأعمق على المتلقي، والفنان د. سعدون جابر، أقدم على غناء قصيدة “غريب على الخليج” من ديوان “إنشودة المطر” للشاعر بدر شاكر السياب، بألحان الفنان طالب القره غولي، على مقام الكرد.
والقصيدة كتبها السياب في الكويت 1952 هارباً بعد فشل إنتفاضة 1953 متشبعاً بالغربة والوحدة والكآبة وعدم مبالاة الآخرين به… هذا الزخم المتدفق من الهوان الإنساني، لخصه السياب بـ”والموت أرحم من خطية” فتجلى بحنجرة سعدون جابر، الذي غناها ضمن مسلسل (بدر شاكر السياب) تأليف سامي محمد وإخراج فارس طعمة التميمي 1998 ثم أقتطعها لوحدها Single وشغف بها محبو شعر السياب وصوت سعدون وألحان طالب.
- نداء الثورة
صوت الكورس الذي يبدأ بنداء “الريح تلهث بالهجيرة، كالجثام، على الأصيل.. وعلى القلوع تظل تُطوى أو تُنشَّر للرحيل.. زحم الخليج بهن مكتدحون جوَّابو بحار.. من كل حافٍ نصف عاري.. وعلى الرمال، على الخليج.. جلس الغريب، يسرح البصر المحيَّر في الخليج.. ويهد أعمدة الضياء بما يُصَعِّدُ من نشيج.. أعلى من العبَّاب يهدر رغوُهُ ومن الضجيج
صوتٌ تفجر في قرارة نفسي الثكلى عراق.. كالمد يصعد، كالسحابة، كالدموع إلى العيون” كأن المسلسل كاملاً والأغنية وحدها، تتفاءل بمستقبل العراق، إنطلاقاً من واقع إنتفاضة 1952 المحبطة، وتردي حال المشاركين فيها.. إعداماً وسجناً وتشرداً وتنكيلاً بالحرمان من مصادر العيش الكريم، وكان الهرب من نصيب السياب الذي لم يجد أرضاً تؤويه سوى الكويت؛ فلاذ بها مهملاً، حتى أدباء دولة الكويت الشقيقة لم يستطيعوا تقديم ما يوقره.. وظيفة أو مستحقات لاجئ؛ وحكومة الكويت آنذاك مشكورة لأنها لم تسلمه لحكومة العراق، مكتفين بتركه سائباً في مأمن، بل سواه رفضوا إستقبالهم وطلبوا منهم مغادرة الأرض الكويتية مهددين بتسليمهم الذي لم تطلبه حكومة العراق.. إنسانياً، مكتفية بالتخلص منهم محبطين، ولو أبدى السياب أي نشاط سياسي.. حينها.. لحق للحكومة الكويتية تسليمه للإعدام.
- تداعيات الحزن
كل ما سلف من أسى الخوف والكآبة والفشل وإنهيار القيم الوطنية إحباطاً، أسقطها السياب على غربته وهوانه على الناس “الريحُ تصرخ بي عراق.. والموج يُعوِل بي: عراق، عراق، ليس سوى عراق!.. البحر أوسع ما يكون وأنت أبعد ما تكون.. والبحر دونك يا عراق.. بالأمس حين مررتُ.. بالمقهى، سمعتك يا عراق.. وكنت دورة أسطوانهْ.. هي دورة الأفلاك من عُمُري، تكور لي زمانهْ.. في لحظتين من الزمان، وإن تكُن فقدت مكانَهْ.. هي وجه أمي في الظلام.. وصوتها، يتزلقان مع الرؤى حتى أنام.. وهي النخيل أخاف منه إذا ادلهمَّ مع الغروب.. فإكتظ بالأشباح تخطف كلَّ طفلٍ لا يؤوب.. من الدروب”.
بنداء الكورس والحزن الشفيف المنساب أثيراً زلالياً صافياً من حنجرة سعدون جابر، وكآبة السياب على شاطئ الخليج، ضمن الفنان طالب القره غولي، شد المستمع الى نمط أدائي مغاير للمألوف من مسموعات الجمهور العراقي، وهو (القصيدة المغناة) التي ليس لها حضور كبير في الذائقة العراقية، بالقياس الى الغنائين.. الريفي والمديني.
الذائقة العراقية ملتبسة، من حيث إصغاء المدينيين للغناء الريفي، حتى أن الحركة تتوقف في بغداد، ساعة يشدو حضيري أبو عزيز، من الإذاعة بثاً حياً نهاية الثلاثينيات… خاطب طالب القره غولي، مثل هكذا ذائقة إشكالوية، ونجح لجمال الأسى النابض في صوت سعدون جابر، وسحر حنجرته التي خلقها الله من طين الأهوار الحري.
- رؤى أكاديمية
حققت أغنية (غريب على الخليج) صدى واسعاً أوان نزولها Single حال إيقاف المحكمة عرض مسلسل (بدر شاكر السياب) بشكوى من زوجته العام 1998 وإهمال المنتج سعدون جابر للأمر؛ درءاً للمؤاخذات، لكن الأغنية ما زالت تحظى بإهتمام ذوقي عام على الصعيد الشعبي، وشكلت وحدة قياس أكاديمية، في مناهج البحث والدراسات الموسيقية الجامعية.. الأولية والعليا.
تفرد طالب القره غولي.. رحمه الله، في عدم وضع مقدمة موسيقية، مكتفياً بنداء الثوار كورساً موحداً، ليدخل سحر صوت سعدون جابر، جمالاً وطنياً يحيط ذائقة المستمع.