لم تكن المزارات الدينية يوماً من الأيام دافعاً للتضحية بالنفس أو سبباً لخلق العداوة والبغضاء بين الناس ولكن هذا الشيء حصل فعلاً في السنين الأخيرة بأن تتحول الأضرحة والمقامات والمزارات إلى مصدر جديد للفتنة تضاف إلى المصادر الكثيرة التي تعج بها مجتمعاتنا للأسف الشديد وكأن المضحيين هم قرابين لديمومة وجود المزار ، مثلما كنا نسمع في القصص الخرافية التي تروى على السن العجائز بأن البحر الغاضب يحتاج إلى القرابين ليهدأ فأصبحت القرابين واقع حال في حياة مجتمعاتنا ، مئات السنين ونحن نقدم شبابنا قرابين لأشياء أقرب إلى الأوهام … ومن القصص التأريخية التي تحمل الكثير من الدروس والعبر كمقدمة لهذا الطرح ( روي أن جد الرسول محمد ع كان يرعى الأغنام خارج مكة عندما قدم أصحاب الفيل لإحتلال مكة وتدمير البيت الحرام ، فأمر قائد الحملة بمصادرة جميع الأغنام التي كان جد الرسول يرعاها بعد أن عرف القائد بأن جد الرسول هو أحد وجهاء مكة وأحد رعاة البيت الحرام فسارع جد الرسول إلى قائد الحملة وقال له وهو يشير بأصبعه إلى بيت الله ( هذا البيت له رب يحميه أذهبوا إليه وأفعلوا ما شئتم به ، أما أنا سأحمي أغنامي ولست موكلاً بحماية بيت الرب ) بغض النظر عن صحة الرواية وواقعيتها ، هذا التصرف العقلاني من جد الرسول رسالة لنا ولكل الأجيال بأن المزارات أو بيوت الله لا تتطلب منا التضحية والقرابين إذا كنا نؤمن بأن هذا المزار أو غيره تحت رعاية الله ، ، لا يوجد دين أو مذهب أو معتقد روحي بلا مزار كبير مقدس يحج إليه أصحاب المعتقد ويزوره الاتباع بالمناسبات ليتبركوا به وليطلبوا حاجاتهم ويستفرغوا همومهم ، ، فجميع المعتقدات الروحية والديانات التي تكونت عبر التأريخ ولم يصبح لها مزارات خاصة بها فأن تلك الديانات تكون قد تلاشت واندثرت أو ضعفت إلى درجة الاختفاء ولم يعد لها وجود مؤثر . فالمزار هو سر من أسرار بقاء الدين او المذهب او المعتقد الروحي بل هو الجزء الأساس لبقاء وديمومة الدين ، ويمكن تسمية المزار بأنه منتجع التابعين المؤمنين للتأمل والإسترخاء الروحي ، ، ، في بعض المدن والقرى هناك مقامات مقدسة هي مزارات أيضاً ، فكلما كان المزار فخماً وجميلاً والبناء فيه مطعماً بالذهب وفيه رعاية كبيرة كلما أعطى للأتباع والزائرين قوة روحية وتماسك مع المعتقد او الدين أو المذهب ، ، لذلك نجد الديانات والمعتقدات الأكثر نجاحاً وقدسية عند الأتباع هي الأكثر إهتماماً بالمزارات . من أهم واجبات رجال الدين المتصدين للمعتقد هو إيجاد السبل لجعل المزار مقدساً و مبجلاً في نفوس الناس بأي طريقة كانت سوى بالحقائق التأريخية أو بالخرافات والكذب ، فالقدسية لها الاولوية لأن القدسية تخلق الحب و الخوف في آن واحد و تقشعر الجلود و الابدان عند الزيارة ، فلا قدسية بلا خوف وحب ورهبة . المزارات أما أن تكون رمزية دينية أو تكون قبوراً وأضرحة لرموز ذلك المعتقد الروحي وتصل الأمور أن تكون المدينة التي يقع فيها المزار مدينة مقدسة ارتباطاً بذلك المزار بل الأكثر من ذلك نفس رجال الدين أو المعتقد يصبحون ذوات قدسية هم وعوائلهم ويصبح نسبهم مميزاً ولهم هالة من القدسية . قديماً كانت المزارات عديمة القدسية أو قدسيتها ضعيفة لأن مشاكل الناس وهمومهم كانت محدودة وهذا يعني كلما أزدادت هموم ومشاكل الإنسان وخاصة المعيشية كلما ازدادت القدسية لتلك المزارات لأن التوسل بالمزارات تخفف من وطأة الضغوط النفسية ، وهذا يعطينا تفسيراً لماذا المجتمعات التي تعيش ظروفاً اقتصادية جيدة وحياة مستقرة هي أقل تقبلاً للمزارات ولقدسية المزارات .
من أهم الأمور التي يحرص رجال الدين على تفعيلها هي وضع طقوس وقوانين خاصة بالمزار لإبداء الخشوع والأحترام بحيث يكون الزائر أمام إلتزام طوعي لهذه الطقوس والقوانين ، ومن يحيد عن هذه الطقوس والقوانين يتعرض للإزدراء والتنكيل من قبل المشرفين على المزار ومن قبل الزائرين أنفسهم وقد يتعرض للعقوبات القانونية تحت فقرة إزدراء الأديان .. الإنسان الواعي العاقل يضع حالة المزارات في المنظار العقلي والمنظار العلمي ولا يجد أي مبرر أخلاقي أو مبرر إجتماعي أو عقلي لإعطاء هذه المزارات أهمية تفوق مكانتها ، فهو ينظر إليها من باب تراثي تقليدي محبب للنفوس ، فهو لا يرى ضرورة لمحاربتها والطعن بها أو الاعتراض على وجودها وكذلك لا يجد ضرورة لتقديسها والإهتمام بها فوق متطلبات حياته الضرورية ، ولكن المشكلة تظهر عندما يصبح الإهتمام ببناء المزارات فوق أهمية بناء المستشفيات والمراكز الخدمية والمؤسسات التعليمية والتطوير العلمي والرياضي والأكاديمي والفني ، فهنا يضطر العاقل إلى الوقوف وقفة مسؤولة دون محاباة ودون رياء أن لا مجال لأية فعالية دينية اجتماعية تسبب الضرر لحياة الناس ، فهو بالحقيقة لا يعادي ذات المزار كتراث إجتماعي وكقيمة دينية ولكنه يصبح معادياً للطريقة التي يفرضها رجال الدين لكسب ود الناس نحو المزار خاصة عندما يكون الدجل والافتراء علامة مميزة لهذه الطريقة ، فليس من المنطق وليس من الاخلاق ولا من العقل أن نجعل أولوية المزارات تلغي أو تضعف أهمية المؤسسات الخدمية والتعليمية والصحية والعلمية فتلك متطلبات حضارية إنسانية ملحة أكثر من المزارات بل لا يمكن مقارنة أهمية المزارات بتلك المؤسسات لكي يقوم رجال الدين بتحريض الناس على اعطاء الاولوية للمزارات ، وهذه هي التي تجعل الحكومة وقوانين الحكومة عاجزة عن منع هذا الدفع العقائدي فيصبح سكوتها أمراً مفروضاً وسكوت الحكومة يكلفها الكثير من ميزانيتها ومخططاتها التنموية ، فبالتأكيد ستكون الحكومة في وضع لا يحسد عليه وسيكون الفشل التنموي نتيجة طبيعية لبرامجها الاقتصادية والعلمية والعمرانية ، العقلاء يفهمون ويدركون مدى الاضرار التي تسببها أهتمامات الناس الزائدة بالمزارات وطقوس المزارات والمناسبات المصاحبة لزيارة المزارات ولكنهم لا حول ولا قوة لهم لأن القدسية التي إكتسبتها هذه المزارات أصبحت خطاً أحمراً وحتى القانون جعلها خطاً أحمراً وشرعت القوانين الخاصة بها ، منها قوانين العقوبات بحق إزدراء الأديان ورموز الاديان ،،، فالمجتمعات الحريصة على التركيز في زيادة المناسبات الدينية وإحياء حركة زيارات المزارات ستكون تخطيطاتها بدل بناء السدود لمواجهة الفيضانات وبدل البحث عن علاجات للأوبئة وبدل مواجهة الفساد والفاسدين في الحكم وبدل التطوير العلمي سيذهبون للمزار يتوسلون به ليلبي طلباتهم وليفعل كل ذلك نيابة عنهم ، وأكيد المزار لا يلبي لهم أي طلب ، فهذه الأمور من اختصاص العقل والعلم والتخطيط والإرادة ، لكن للأسف بعض رجال الدين الذين يدفعون الناس لتركيز اهتمامهم فقط بالمزارات يخدعوهم بأن المزار يستطيع تحقيق كل ذلك لهم ويقنعونهم بأن الأمر يحتاج إلى زيادة الإيمان و يحتاج إلى الصبر والتحمل وأن المزار سيعطيهم العلاجات بدل المستشفيات وسيعطيهم الأرزاق والنجاحات وخير الدنيا والأخرة ، وهذا كله تشويه وطعن بمقام المزار وليس إحياء له . فهل ستحل المزارات محل التخطيط العلمي لبناء البلد ونكتفي بالدعاء جوار هذه المزارات لحل مشاكل السكن وتوفير فرص العمل وبناء المستشفيات وتلبية احتياجاتنا للخدمات والتطوير ؟