سوريا بين رُكام الشرق وحُمى الغرب: عن الأويغور، إسرائيل، وخرائط الصفقات / بوتان زيباري

في قلب هذا الخراب الممتد من جبال حلب إلى سهول درعا، تتشكّل من تحت الأنقاض خرائطٌ جديدة للمنطقة، لا يرسمها شعبها بل تُخطّط بأقلام استخباراتية، وتُكتب بمِداد المصلحة، وتُوقّع بأصابع ترتجف من هول التاريخ. ليست الأزمة السورية مجرّد صراع داخلي، بل هي امتحان وجودي طويل يفضح هشاشة السرديات، ويكشف كيف يمكن أن تُستخدم الجغرافيا كجبهةٍ لتصفية الحسابات الكونية.

وفي طيّات هذا المشهد المتصدّع، تبرز قضية ضمّ آلاف المقاتلين التركستاني الإيغور – أولئك الذين نزحوا من سجون الصين إلى خنادق إدلب – إلى الجيش الوطني السوري. ما بين سطور هذا القرار تتسرّب أسئلة محرجة بحجم جرح الوطن: كيف لمن وُصفوا يوماً بأنهم متطرفون خطيرون، أن يتحوّلوا بين ليلة وضحاها إلى “إخوة السلاح”؟ هل تغيرت الحقائق فعلاً، أم أننا ببساطة نعيد طلاء الوجوه بالألوان التي تناسب الراعي الدولي؟ وهل الجيش الوطني صار جيشاً سورياً حقاً، أم بات كتيبة مستأجرة في خدمة حسابات واشنطن وأنقرة وتل أبيب؟

لسنا هنا إزاء مجرّد قرار عسكري، بل أمام عملية تجميل كبرى لصفحة مشوّهة في كتاب الجهاد المعولم. فالإيغور، الذين فرّوا من قمع الصين، استخدمهم النظام التركي كأوراق ضغط في وجه بكين، ثمّ جاءت اللحظة المناسبة لإلقائهم في سلة المهملات السورية. إنها الهدية التركية للصين عبر البوابة الأمريكية، والمفارقة أن هذه “الهدية” تُقدم على شكل كتيبة مقاتلة تحت إشراف مباشر من البنتاغون! فهل نحن أمام جيش وطني سوري، أم أمام ذراع عسكرية هجينة، تقاتل في خدمة أهداف لا تمتّ للثورة ولا لسوريا بصلة؟

ولنكن صرحاء: من هو صاحب القرار في هذا الضمّ؟ هل هو أحمد الشرع، من يلوّح بالشفافية وكأنه ملاك طهراني، أم هو البيت الأبيض الذي اكتشف فجأة أن هؤلاء “المتطرفين” يمكن تطويعهم ضمن سردية “مواجهة الصين”؟ ومن يضمن أن كتيبة كهذه – ذات خلفية أيديولوجية صلبة – لن تعيد إنتاج نسخة جديدة من “هيئة تحرير الشام”، هذه المرة بعقيدة أكثر تشابكاً مع استخبارات العالم؟

الحقيقة المُرّة أن سوريا، اليوم، تتحول إلى ملعب مفتوح لتجريب استراتيجيات متعددة الأبعاد: الصين تُحاصر من الجبهة السورية عبر الإيغور، وإسرائيل تُطبّق رؤيتها للأمن المشترك مع “سوريا الجديدة”، والولايات المتحدة تحاول إنشاء جسرٍ جديد نحو آسيا، يبدأ من أطراف إدلب. حتى باكستان والهند تجد لهما نصيباً في هذا الجنون الجغرافي، حيث تُستغل قضية الإيغور لتفجير صراعات إضافية تجرّ العالم الإسلامي بعيداً عن القدس وغزّة، لتُعاد صياغة “العدو” بلون صيني هذه المرة.

وما يُثير الغثيان فعلاً هو محاولات بعض السوريين التماهي مع هذه الهندسة الجيو-أمنية، وتقديمها على أنها “فرصة استراتيجية” أو حتى “مكسب عسكري”! وكأن دماء السوريين قد أصبحت رخيصة لدرجة تُقدَّم فيها قواعد ومخيمات على طبق من فضة لكل من هبّ ودبّ، بحجة الدفاع عن “الثورة”. لكن أي ثورة هذه التي تستبدل ديكتاتوراً بميليشيا مُبرمجة وفق أجندات إقليمية؟ وهل صرخات درعا كانت تستدعي يوماً تدخل الإيغور أو تسليحهم من واشنطن؟

أما الكارثة الأكبر، فهي تصوير هذه اللعبة كجزء من مسار تطبيع جديد مع إسرائيل، بحجة “الأعداء المشتركين”. فهل يُعقل أن تصبح الصين وإيران أعداءً أكثر خطورة من بشار الأسد وحزب البعث؟ هل تذوب الذاكرة الشعبية بهذه السهولة؟ وكيف تُفسَّر الدعوات “الشفافة” للتعاون الأمني مع تل أبيب، وكأن فلسطين لم تُجتز بعد من ذاكرة السوريين؟

ما يحدث اليوم هو إعادة تدوير لما شهدناه في أفغانستان: استثمار الإسلام المسلح ضد الشيوعية، وتغليف الجهاد بورق المصالح. ولكن هذه المرة، اللعبة أكثر خبثاً: سوريا لم تُستشر، بل جُرّت جراً إلى خنادق الآخرين. وما الجيش الجديد – الكتيبة 84 – إلا رأس حربة في هذا المشروع: جيش بأذرع إيغورية، وعقول أمريكية، وإشراف إسرائيلي، يتسلل إلى قلب الخارطة السورية ليحوّلها إلى خط مواجهة مباشر ضد الصين، ولتكون حلب أو درعا أو إدلب امتداداً لحرب تكنولوجية اقتصادية تدور بين بكين وواشنطن.

وماذا بعد؟ سوريا الآن باتت أقرب – حسب بعض التقديرات الغربية – إلى التطبيع مع إسرائيل أكثر من أي دولة عربية أخرى، لأن 40% من الشعب – حسبهم – “لا يمانع”! إنه تسويق فجّ لعقيدة نفعية لا تستند إلى عمق حضاري أو وعي تاريخي، بل إلى تعب المجاعة والانكسار. فأي شعب منهك يمكن أن يُدفع إلى القبول بأي حل، حتى لو كان من يد عدوّه. لكن التاريخ لا يُكتب بالتعب وحده، بل بالبصيرة.

إن سوريا اليوم لا تحتاج إلى مزيد من الخطابات المؤدلجة، بل إلى لحظة وعي أخلاقي. لا بأس أن نقول إن الضرورات أحياناً تفرض خطوات مريرة، لكن من المخزي أن نحاول تسويقها كـ”نصر أخلاقي”. فالأويغور ليسوا ملائكة، ولا أدوات بريئة. ودماء السوريين لا يجب أن تُستبدل بشعارات الجهاد ضد بكين، ولا أن تُباع في سوق “الصفقات الذكية” بين أنقرة وواشنطن وتل أبيب.

إذا كنا قد فشلنا في منع الحرب، فلننجح – على الأقل – في قول الحقيقة. فلنكتب تاريخنا بأيدينا، لا بأقلام الآخرين، ولنحترم أرواحنا الميتة والممزقة أكثر من احترامنا لأجندات العواصم. فربما يأتي يوم نُسأل فيه: لماذا جعلتم من سوريا مختبراً للخرائط، لا وطنًا للكرامة؟

بوتان زيباري

السويد

04.06.2025

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *