بين الهبة والسُّلطَة: قراءة في قصيدة “إنّما الدنيا لِمن وَهَبا” للشاعر القدير جواد غلوم – سهيل الزهاوي

 

 

مقدمة:

فبدأ الشاعر في قصيدة *إنما الدنيا لمن وهبا* من رؤية تتسم بالبعد الوطني المشبع بروح التأمل والنقد، حيث مزج بين حنين عميق إلى عراقٍ مضيء بقيم الكرم والبطولة وبين واقع مأزوم يشهد تمزقًا بسبب فسادٍ سياسي واجتماعي مستشرٍ. لا يقتصر النص على استدعاء الماضي الزاخر بمعاني الكرامة والشموخ، بل يتحول إلى منصة لممارسة احتجاج شعري صارخ ضد حكومة أفسدت المبادئ وأسكنت مفهوم الديمقراطية وراء ستار من الزيف الذي يكرّس الهيمنة ويبرر الخداع.

تتجلى هنا ثنائية الزمن بين حقبة تاريخية كان فيها العراق رمزًا للقيم الإنسانية النبيلة، وواقع معاصر تسيطر عليه السلطوية والفوضى السياسية. وتتصادم في القصيدة رؤيتان متناقضتان: أولاهما نموذج يعلي من خطاب المصالح الآنية والأنانية على حساب العدالة، وثانيهما خطاب شعري يعرّي تلك المصالح المزيفة ويكشف أبعادها المضللة.

تتبلور أهمية هذه الدراسة حول تحليل البنية الشعرية في القصيدة على ثلاثة محاور رئيسية:

  1. البنية النصية: تعنى بكيفية توظيف الشاعر للغة وقوة الصورة الشعرية لتشييد خطاب نقدي يحمل حمولة فكرية غنية.
  2. البنية الموضوعاتية: تركز على مفاهيم مثل الاغتراب، الانتماء، وقيم البطولة التي تؤسس لرؤية تعبر عن معاناة متجذرة في تجربة عراقية تجمع بين وعود الماضي المؤجلة وكوابيس الحاضر القاسي.
  3. البعد السياسي الاجتماعي: يسعى النص لتصوير الحكام كرموز للفساد الذين شوّهوا معنى الديمقراطية، مغتصبين مفهوم الهبة المشروعة لصالح ممارسات قائمة على النهب المقنع باسم الولاءات السياسية والمصلحية.

في إطار هذه المحاور، تظهر القصيدة كمحاولة لإعادة تشكيل مفاهيم أساسية مثل الحياة، الكرامة، والهوية. وبهذه الطريقة تتحول الكلمة الشعرية إلى أداة نقد ومقاومة واستنهاض للإرادة الجماعية، باندفاعٍ يعكس يقينًا راسخًا بإمكانية بعث عراق جديد قادر على استعادة مجده التليد.

 

التحليل الشامل للأبيات

العنوان: “إنّما الدنيا لِمن وَهَبا” – مفارقة لاهبة

يحمل عنوان القصيدة “إنّما الدنيا لِمن وهبَ” دلالة بلاغية ومفارقة فكرية ذات طابع نقدي، تنبثق من تحوير واعٍ للمثل الشائع “الدنيا لمن غلب”، وذلك عبر استبدال “الغلبة” بالإيثار. هذا التحوير لا يكتفي بإعادة صياغة اللفظ، بل يُعيد توجيه المعنى نحو قراءة أخلاقية-سياسية تعيد مساءلة مفاهيم السلطة والشرعية.

يشتغل العنوان كآلية تفكيكية تنتقد الخطابات السائدة التي تُبرّر التسلط والنهب باسم الغلبة أو القوة، ليطرح بديلاً قيميًا يتمثل في “الهِبة”، وهي هنا تُفهم لا بوصفها فعل كرم، بل كآلية رمزية تشير إلى منح السلطة والثروات بغير استحقاق، تحت غطاء ديني أو طائفي. ومن هذا المنطلق، يُضمر العنوان سخرية مريرة من الواقع السياسي العراقي، حيث تُوزّع الامتيازات وفقًا للولاء لا للكفاءة أو العدالة.

ومن منظور سيميائي، فإن “الهِبة” تصبح أداةً لتعرية التناقض بين الخطاب القيمي المعلن والممارسات الواقعية، ما يجعل العنوان مفتاحًا دلاليًا لفهم بنية القصيدة بوصفها نصًا احتجاجيًا. إنه ينهض بوظيفة تأويلية تكشف عن أزمة مشروعية تحكم الواقع، وتعيد مساءلة العلاقة بين اللغة والسلطة، بين المبدأ والتطبيق.

1. لحظة الاكتشاف والوعي المنكسر

“لمّـا رأيت الـذي يجري بموطننا
خلوتُ وحدي لأني أعرفُ السببا”

عندما نتمعن في قول الشاعر “لمّا رأيت الذي يجري بموطننا”، نجد أنفسنا أمام لحظة وعي عميق تحمل في طياتها إدراكًا مؤلمًا لحال الوطن. ذلك الوطن الذي ارتبط في الأذهان بالأمان والكرامة، أصبح اليوم حِملاً ثقيلاً يتصارع مع تناقضاته. ومن منطلق أن الحب الحقيقي يستلزم فهمًا ووعيًا شاملاً، فإن الشاعر لا يلجأ إلى الهروب من هذا الواقع المرير، بل يعمد إلى مواجهته من خلال اختيار العزلة والتأمل. إذ يدرك أن التعمق في “معرفة السبب” هو مسؤولية جوهرية تُفرض على من يرتبط بالوطن بشعور الحب والانتماء. في هذا السياق، تصبح العزلة موقفًا تأمليًا يتجاوز حدود الانكفاء ليشكل محاولة واعية لإعادة صياغة العلاقة المتصدعة مع الوطن وإعادة ترميمها على أسس أكثر صلابة و استيعابا

2. شخصنةُ المأساة وانقلابُ القيم

“الزيـفُ في وطـني يـسْودُّ متسعـا
والمـوتُ صارَ أخانا والدمـوعُ أبا”

في هذين البيتين الشعريين، يعكس الشاعر تصويرًا مكثفًا لحالة التفكك القيمي والتراجع الأخلاقي الذي يعصف بالوطن، ويتحول فيه إلى فضاء مشوه تغلب عليه مظاهر الزيف والموت. يُستخدم الفعل “يسودّ” ليس فقط لوصف الانتشار الواسع للزيف، بل ليعبر أيضًا عن حالة انطفاء النور الرمزي للمبادئ الأخلاقية وضياع البصيرة العامة. يشير مفهوم “التوسع” إلى استشراء الكذب وزيادة تأثيره في جلّ تفاصيل الحياة اليومية.

تصل الصورة الشعرية إلى قمة تجليها في توظيفها لما يمكن اعتباره إعادة تعريف للأسرة الرمزية؛ حيث يصبح الموت بمثابة “الأخ”، والدموع تمثل “الأب”. هذه ليست مجرد استعارة بلاغية تقليدية، وإنما تعيد صياغة مفهوم العلاقة الإنسانية ضمن وطن يعاني من الاضطراب والتفكك. إن هذا الانقلاب الدلالي يجعل الموت جزءًا حميميًا من هوية المواطن، والدمع وصيًا دائمًا عليه، في إشارة إلى حالة من الشقاء المستدام التي أصبحت السمة المميزة للوجود اليومي.

تشير هذه الصورة المركبة إلى أن المأساة في هذا السياق تجاوزت كونها حدثًا عابرًا لتصبح كيانًا أصيلًا ودائمًا ضمن بنية الحياة العامة. وبذلك، يتحول الشقاء إلى عنصر جوهري في الانتماء الوطني، ما يرمز إلى واقع تتراكم فيه الخسارات وتتوارث فيه الهزائم، مما يشي بمستقبل غارق في بؤس متجذر وفقد مستمر يتغلغل في عمق الذاكرة الوطنية.

3. تضحية الحب وامتناع المتع السطحية

“أذوقُ مـن حصرم الآلام ألذعهُ
وغـيرنا يـتـشهّـى الخـمرَ والعنبا”

في البيتين الشعريين، يُبرز الشاعر مفهوم “المذاق” كإشارة رمزية تعكس قيمة الحب الوطني. فذكره لـ “ذوق حصرم الآلام” يُظهر كيف يصبح الألم شهيًّا، حيث يعزز ارتباطه بوطنه ويعبر عن شغفه بالتضحية. بالمقابل، يترك الآخرون هذا الالتزام الوطني وراء ظهورهم ويسعون نحو متع سطحية مصوّرة في “الخمر والعنب”، وهو ما يعكس انعدام الجدية في شعورهم بالانتماء.

المفارقة العاطفية

يقدم الشاعر هنا تناقضًا عاطفيًا فريدًا؛ فبدلاً من رفض الألم، يحتفي به كطعم محبب. هذا التحول يعكس رؤية بأن التضحية والصمود في مواجهة الانكسار هما التجسيد الحقيقي للحب الأصيل. بل إن الألم يصبح دلالة وشهادة على الوفاء للوطن.

الاستعارة المزدوجة

يرتكز التعبير الأول على “حصرم الآلام”، أي تلك اللحظة التي يصل فيها الألم قمّته، ولكنه يُعاد تشكيله ليُصبح لذة تتجاوز ملذات دنيوية فارغة ومزيفة. هذا التصوير يصور الألم كرمز خالد للتضحية ويمنح القصيدة بُعدًا اجتماعيًا عبر الموازنة بين معنى الألم واللذة.

الدلالة السياسة المستترة

من خلال انتقاده لأولئك الذين “يتشهّون الخمر والعنب”، يوجه الشاعر رسالة لاذعة تستهدف الطبقة الحاكمة أو الفئات المنشغلة بالمتع العابرة على حساب معاناة شعبها. تلك الفئات، بدل التضامن والسعي للتغيير، تتهاوى أمام رغباتها السطحية، في مرحلة تتطلب تضحيات وحراكًا حقيقيًا وفعّالًا.

4. التيه في فضاء الوطن المتغيّر

في البيتين الشعريين المذكورين، يُوظِّف الشاعر استعارة التشبيه لتجسيد حالة الضياع الداخلي التي تسود في وطن تغيّرت ملامحه المألوفة. فالشاعر يصوّر نفسه كـ”الضائع الوسنان”، الذي يتيه مترنّحًا بلا هدى، حيث يتحول هذا الشعور إلى تجربة شخصية تمثّل انقطاعاً عن الهوية الجمعية والمسارات الراسخة التي كانت تشكل جزءًا من إدراكه لوطنه. أما “البلد” في النص فلا يعود مكان الأمان والاستقرار، بل يصبح فضاءً غامضًا يغمره الالتباس والمشاعر القاتمة.

1.   الضياع كحالة نفسية ومعاناة متجذرة

يُشير التشبيه الضمني إلى أن الشاعر يعاني من أزمة انتماء، حيث لم يعد يشعر بوجود رابط ثابت بين ذاته ووطنه. الوطن، الذي كان يمثل بوصلة معنوية، فقد هذا الدور ليصبح مساحة غريبة تشكّل عودة الشاعر إليها محطة للتشتت الجغرافي والنفسي، مما يجعل الحركة داخله مفتقرة إلى الهدف والأمل.

2.   اندثار الهوية كمصدر للألم

تجسد “الحيرة المكتئبة” انعكاسًا لواقع الوطن الذي افتقد القيم والمعاني التي كانت سابقًا تجسدها. هذا التحوّل العميق يضع الشاعر في حالة من الاغتراب الداخلي، حيث يشعر بفقدان إدراكه للمعاني التي كان الوطن يعبر عنها. وتنبع هذه الأزمة من عدم قدرة الشاعر على استيعاب تحولات الواقع الوطني، وهو واقع أضحى سبباً في تحول بيئته، التي كان يُفترض أن تكون ملاذاً معنويًا، إلى مساحة تفتقر للهوية والروح.

5. تمزق الذات وتمزق الوطن

 

“تـمـزّق القـلبُ أشـلاءً مبـعْــثرةً

العـظمُ هيظ ولحمي قـد غـدا إرَبا”

1. استعارة التمزّق كبنية رمزية:

 يفتح الشاعر عبر تمزّق القلب والجسد مساحةً للتعبير عن انهيار الذات، لكن هذا الانهيار لا يُفهم بمعناه الفردي فحسب، بل يتجاوزه إلى تمزق الوطن ذاته. فالقلب رمز للانتماء والهوية، وعندما يُبعثر، فإن المعنى يتجاوز حدود الجسد ليعكس تفتت الكيان الوطني، وكأن الشاعر يحمل الوطن داخله، ويتكسّر معه.

3.   الجسد كرمز للفاجعة الجمعية:

 في “العظم هيظ” و”اللحم إرَبًا”، تتجسد الكارثة بلغة جسدية، توصل الألم ليس بوصفه شعورًا عابرًا، بل واقعًا متجسدًا في بنية الذات المهشّمة. الجسد هنا لم يعد كيانًا موحدًا، بل كومة من الأشلاء، تمامًا كما الوطن الموزع بين طوائف وأحقاد وتصدعات تاريخية.

4.   ترابط الذات بالوطن – الجرح كهوية:

 يحوّل الشاعر التجربة الشخصية إلى تجربة جمعية. فالألم الذي يشعر به في قلبه ولحمه هو نفسه الألم الذي تعانيه البلاد في كل مفصل من مفاصلها. هذه العلاقة التبادلية تعيد صياغة مفاهيم الهوية والانتماء، بحيث يغدو التمزّق هو نفسه الذاكرة، ويصبح الجرح سردية الوطن.

5.   المعنى الدلالي الرمزي:

 تكمن براعة الشاعر في تحويل تجربة التمزّق من كونها حالة ضعف إلى لحظة وعي. فإدراك الألم هو أولى خطوات المقاومة. لا حضور هنا للبطولة التقليدية، بل هناك بطولة الوعي، والاعتراف بالتمزّق كشرط ضروري لاستعادة الكلّ المتفتت.

6. رمز الحب وذكريات الدفء.

“ماذا أحدِّث يا بغدادُ عن ولَهي
أضحى الحبيبُ رمادا والهوى خشَبا”
1. مخاطبة بغداد واستحضار الأمجاد الحضارية

حين يخاطب الشاعر “بغداد” لا يقصد فقط دمشق العواطف في مرحلةٍ معاصرةٍ مضطربةٍ؛ بل يُرمز هنا إلى المدينة التي تأسست فوق أعمدة حضارات وادي الرافدين: سومر، أكد، بابل، آشور. فالتعبير “ماذا أحدِّث يا بغدادُ عن ولَهي” ينقل القارئ إلى فكرتين متوازيتين:

  • المخاطب الشخصيّ (بغداد بصفتها حبيبة الشاعر) من المنظر الوجداني للحاضر، حيث صار الحبُّ هشًّا.
  • الرمز الحضاري (بغداد كرمزٍ لكلّ العراق القديم) الذي كان منارةً للعلم والفنون والقيم الإنسانية منذ آلاف السنين.

2. العجز عن نطق الحقيقة المرّة

الفعل “ماذا أحدِّث” ينبئ عن عجزٍ لغويٍّ وهذا عجزٌ وجداني؛ إذ لم يبقَ في ذاكرتـه من كلماتٍ ترقى لتسمِّي حجم الألم وانكسار العلاقة بوطنٍ حكمته سلطة فاشية لاحقة. فاللجوء إلى النداء الشاعريّ يحمل في طيّاته تأكيدًا على أن المشهد الحالي لا يُقاس بأيّ حالٍ بأمجاد تلك الحضارات التي جعلت العراق مهدًا للثقافة الإنسانية.

3. “الحبيبُ رمادًا”: دلالة رمزية على انطفاء أمجاد الماضي

  • رمزية “رماد” هنا تتجاوز مسألة الفناء الشخصيّ فحسب؛ إذ تعني أنّ “الحبيب” الذي هو “بغداد” لم يعد يحتفظ بحيوية ذلك التراث السومري–البابلي–الآشوري، بل بات ركامًا من الآثار التي نُهبت وتآكلت في زمن الاستبداد.
  • يُحيل هذا التصوير إلى إخماد روح المدينة التي كانت سابقًا حاملةً لشعلة المعرفة والحرية، قبل أن يسيطر عليها قهرٌ سياسيٌّ دمويّ.

4. “الهوى خشبًا”: تجمّد العلاقات وغياب الدفء

  • خشب الهوى يشير إلى صلابةٍ جامدةٍ، تعكس جمودًا عاطفيًّا واجتماعيًّا. فالمدينة أو الوطن لم تعد تفيض بمدارات الرحمة أو التضامن أمثالما كان في تقاليد أجدادٍ زرعوا أولى حبات العدالة في دساستهم.
  • هذه الصورة تحدّد حالة الانكماش الروحي التي عادت معها معانٍ الحبّ والولاء إلى مجرد كلامٍ جافٍّ لا حياة فيه.

5. التفكيك السياسي وتشظّي الذاكرة

من البديهي أنّ أيّ استحضارٍ للماضي الحاضر في نفسه لا يمكن أن يسمح بإعادة تمجيد عصرٍ استبدادي؛ بل يسلِّط الضوء على أنه إذا كنا نفتقدُ اليوم “جذوةَ الحضارة” التي كانت تصهر القيم تحت “سماءٍ عراقية” واسعة، فلأننا مررنا بفترة حكمٍ فاشيٍّ، أطفأ نسمات الحرية وبثّ في البلدِ زيفًا من يدٍ واحدة.

بهذا المعنى، يصبح “رماد الحبيب” استعارةً مركّبة:

  • للمدينة التاريخية التي فقدت بعض بريقها الحضاري تحت وطأة القمع.
  • حتى للأفراد الذين صدّرت السلطة قسوةً جعلت من انتمائهم إلى الوطن جرحًا لا يُشفى.

7.انقسام الحضور والفقدان الثقافي:

“أرنو على طللِ الأجدادِ منكسِرا
يحوطني الحشدُ لكنْ لاأرى العرَبا

في هذين البيتين، يستحضر الشاعر أطلال الأجداد كرمزٍ للتاريخ العريق والإرث الثقافي:

  1. الحنين إلى الماضي المجيد
    يشير الفعل “أرنو” إلى شوقٍ عميقٍ واشتياقٍ لتلك اللحظات التي كانت فيها “أطلال الأجداد” تمثّل مكانًا للكرامة والهوية. إنّها استعارةٌ للماضي الحضاري الثريّ الذي تتهاوى الآن أنقاضه، مما يُعمّق الشعور بالانكسار (كلمة “منكسِرا”) بلوعة فقدان تلك المجد السابق.
  2. التناقض بين العدد والجوهر
    تحيط بهُ “الحَشد” من كل جانب، وهو رمزٌ للحضور الكثيف على مستوى السكان أو الخطاب الشعبي، لكنّ الشاعر لا يرى “العَرَبا” الحقيقيين، أي الأشخاص الذين يحملون الهوية الأصيلة والقيم التراثية. هذا التناقض يعكس فقدان المعاني الصافية تحت غطاء الكثرة الشكلي، إذ إنّ الأعداد لم تعد تعكس أصالةً أو جوهرًا، بل مجرّد مظهرٍ فارغٍ من العمق.
  3. الغربة الثقافية وفقدان الأصالة
    السماءُ ملبّاةٌ بالناس، لكنّ الشاعر يشعر بالوحدة الثقافية، لأنه لا يجد من جديدٍ فيهم من يتماهى مع روح “الأجداد” الأصيلة. هنا تظهر استعارة نقدية تنقلنا من الإعجاب الأوّلي بالأحِباء التاريخيين إلى الحسرة على البيئة التي أضاعتها التحولات، فباتت “الحشود” مجرد أرقامٍ بلا مضمونٍ ولا صلةٍ حقيقية بالتراث.
  4. انتحار المواطن بين ثقل المبادئ وجحيم الواقع.

“وكيف أحملُ جمْراً في كفوفِ يدي
مثل التي وُصفتْ: حمّالةً حطبا”

في هذين البيتين، يستلهم الشاعر من صورةٍ دينية عميقة للتعبير عن ثقل المعاناة الفردية والجماعية:

  1. التصوير الاستعاري للمأساة
    يستوقفنا تصوير “حمل الجمرة” في كفّ اليد، الذي ينحو إلى تصوير العبء النفسي المزدوج: الاحتراق الداخلي والألم المستمر. ويُقابل هذا الثقلُ “حمّالة الحطب”، في إيحاءٍ إلى جهدٍ مميت يجعل المواطنوعاءً ينصهر فيه كرامته ومبادئه.
  2. الدلالة الرمزية للمسؤولية الوطنية
    تمثّل “جمرة الوطن” ثمنًا مُرهَقًا يدفعه المواطن الشريف؛ حيث يتحمّل حرارة الحق في وسط تآكلٍ قيَمِيّ. أما “حمّالة الحطب” فتُمثل أيادي الفساد التي تُلقي بالوطن على كفّ الفقراء، فتلتهم كرامتهم بأيدٍ عابرة لا تؤمن بجوهر الالتزام.
  3. موقف احتجاجي وأفق أمني
    تكشف هذه الاستعارة عن احتجاجٍ صامتٍ للمواطن الأصلي، الذي لا يجد حوله إلا رماد القيم وهو يلهث خلف لحظة وعيٍ جديدة؛ إذ لا خلاص إلاّ بتحمّل من يبقى على العهد، وإن آلمهم حملُ الوطن في زمنٍ تفشى فيه الانحلال.

9.التجسيد الديني للفساد السياسي – قراءة سيميائية في صورة إبليس:

“نحن ابتُلينا بإبليسٍ وزمرتهِ
أشاعَ فينا الأسى والفقرَ والجربا”

في هذين البيتين، يستحضر الشاعر صورة “إبليس” بوصفه تمثيلًا أعلى للشرّ المطلق، ليمنح الواقع السياسي بعدًا كونيًا يخرج عن دائرة الخطأ البشري العابر، ويدخل في نطاق الخراب المُمَنهج والمدبّر.

  1. الشيطنة الرمزية للسلطة:
  2. يشكل تشبيه الحاكم بـ “إبليس” اشتغالًا رمزيًا يُضفي على منظومة الحكم طابعًا لاهوتيًا، يحوّلها من منظومة فاسدة إلى قوة شرّ خارقة، متصلة بجذور الأسطورة والدين، مما يعمّق البعد الأخلاقي للرفض.
  3. ثلاثية الخراب: الأسى – الفقر – الجرب:
    يجمع الشاعر بين أبعاد ثلاثة لانهيار الدولة:

الأسى: دلالة على الانكسار المعنوي وفقدان الأمل.

الفقر: مؤشّر لتهاوي البنية الاقتصادية وغياب العدالة التوزيعية.

الجرب: استعارة قاسية توحي بانهيار الصحة العامة، كعلامة مَرئية لتفشي القهر والتهميش.

  1. البنية الاحتجاجية للخطاب:

يتخذ البيت طابعًا إدانيًا واضحًا؛ فالسلطة لم تُتهم فقط بالفشل، بل وُصفت بأنها “ابتلاء”، أي عذاب قدَريّ، مما يعبّر عن ذروة السخط الشعبي وفقدان أي أمل بالإصلاح من داخل البنية الحاكمة نفسها.

  1. مبالغة كونية لتجسيد شمولية الفساد وانسداد الأفق:

“ضاقَ الفضاءُ بهم من فرطِ لوثتهم
وأطفأوا الشمسَ والأقمارَ والشهبا”

في هذين البيتين، يعمد الشاعر إلى تصعيد بلاغيّ ذي بُعد كوني، يصوّر فيه الفساد كقوة ملوّثة لا تكتفي بإفساد الواقع الأرضي، بل تتعدّاه لتخنق الفضاء وتُطفئ مصادر النور الكوني.

  1. التوسيع الكوني للكارثة:
    إن ضيق الفضاء من “لوثتهم” تعبير مجازي يضخّم صورة الفساد ليجعلها متجاوزة للحدود الجغرافية والسياسية، متّسعة حتى لتشوّه العالم بأسره. وهذا الاتساع البلاغي لا يهدف للمبالغة فقط، بل يُوظَّف لتكثيف الإدانة الأخلاقية للسلطة الفاسدة.
  2. الرمزية النجمية لانطفاء الأمل:
    تمثل “الشمس والأقمار والشهب” عناصر الهداية والنور والاستمرارية في المخيال الرمزي. إطفاؤها لا يشير فقط إلى نهاية دورة كونية، بل إلى انعدام الأمل وضياع البوصلة الوطنية والأخلاقية.
  3. الرؤية الاستشرافية ونبرة التحذير:
    تتحوّل هذه الصورة إلى نوع من النبوءة الشعرية السوداء، حيث يُعلِن الشاعر انهيار النظام القيمي والكوني برمّته إن استمرّ الفساد بلا مقاومة. وهو بذلك لا يصف الواقع فحسب، بل يدفع باتجاه استعادة “الوعي الوطني” كضرورة قصوى لإنقاذ ما تبقّى
  4. خيبة الأمل في العلاقات الاجتماعية:

 

“ما ضرّني جمرةٌ تجثو على جسدي

بل شاقني صحبةٌ صاروا لها لهبًا”

يعمد الشاعر هنا إلى تصوير الألم النفسي على أنه أبلغ من الألم الجسدي عبر استعارةٍ حراريةٍ مركزة: فالجمرة، وإن كانت تحرق الجسد، لا تُذكي في النفس غضبًا أو وجعًا بمقدار ما تُنذره الصحبة المتحوّلة إلى “لهبٍ” يُلحق الأذى بالروح. تُجسّد هذه الصورةُ شعورًا عميقًا بخيبة الأمل في العلاقات الاجتماعية، إذ يتحوّل المحيط القريب، المفترض فيه سُند الدعاء والبناء، إلى عدوٍ يحرق الانتماء وينسف الثقة. وبالتالي، لا يعود الألم مجرد تجربةٍ حسية، بل يصبح انعكاسًا لمأساةٍ نفسيةٍ تكشف عن خذلانٍ إنسانيٍ متغلغل، “يشير هذا التصوير إلى مدى عمق الانكسار حين ينبع الألم من جانب بعض الصحبة المقربين.

  1. عمق التصوير في الفعل

 

“أين النجوم التي كانت تلاحقنا
تحدو الزمان إلى الأمجاد والحقبا؟”

في هذين البيتين، يتجاوز الشاعر دور السؤال البلاغي النمطي، ليكشف عن غياب الرموز الباعثة للأمل. فـ”النجوم” ليست هنا مجرد أجرام سماوية، بل تمثل قيمًا ومثُلًا عليا — أو القادة والأحلام — الذين كانوا يقودون الدرب نحو العزة والمستقبل الواعد.

يكمن عمق التصوير في اختيار الفعل “تحدو”، من الفعل “حدا” بمعنى السير بخطى ثابتة وانتقال سريع. هذا الفعل لا ينطوي على سكونٍ سلبي، بل يحمل في طياته إيقاعًا حركيًا ونفَسًا تقدميًا، كما لو أن كل نجمة كانت “تدفُع” الزمن إلى الأمام نحو أمجادٍ وحقبٍ مضيئة.

بإسناد هذا الفعل إلى الزمن، يحول الشاعر تلك “النجوم” إلى عناصر فاعلة في التاريخ، لا مجرد مشاهد خلفية. وعندما يسأل: “أين هي الآن؟”، يوجّه سؤالًا عن انقطاع هذا النبض الحضاري وغياب دور هؤلاء النجوم في إضاءة المسار.

بهذا التصوير البلاغي، يتحوّل الضياع من مفهومٍ فكريٍّ عام إلى حالة وجدانية تعكس انعدام القِيَم القادرة على دفع الزمن نحو الأمل، ويعبر عن الحيرة أمام تحول الزمن نفسه من محركٍ للنهضة إلى آلةٍ لطمس الأماني.

  1. 13. أرضٌ تجذب الجميع:

“أين العراق الذي ناخ الجميع له
وأنبت الطّهْرَ والأطهار والنجبا؟”

يتجاوز الشاعر في هذين البيتين البعد الفردي ليستدعي مفهوم الوطن باعتباره فضاءً جامعًا له جاذبية أخلاقية وتاريخية. فـ”العراق” يُصوَّر هنا ليس مجرد كيانية جغرافية، بل هو هوية وطنية أصيلة تقوم على ميراث حضاري ثري، قادرٌ على إنضاج “الطّهر” و”الأطهار” و”النجبا” — رموزٌ للقيم النبيلة والصفاء والريادة.

ومع ذلك، تكشف صيغة الاستفهام “أين العراق؟” عن حالة من الانكسار الجمعي؛ إذ باتت عقلية الناس لم تعد تتمثل هذا المثال الحضاري المتجذر، ما يشير إلى أن مرحلةً ثقافيةً وجمعيةً كانت قائمة قد انتهت، وأن امتدادَها لم يعد متحققًا في الواقع الحالي المُشوَّه.

من ثم، يُصبح السؤال البلاغي توجيهًا نقديًّا ينير على غياب المشاريع القادرة على إعادة إحياء التوازن بين الإرث القيمي والصرامة الأخلاقية من جهة، وبين ممارسات الواقع من جهة أخرى، ليؤكد أن حالة الاستفهام هنا هي بمثابة إنذارٍ بأن الرواية الوطنية العريقة لم تعد حاضرةً في فكر الجماعة

  1. العطر المتبدد: شذرات من مجد ضائع

 

“رشَّ الحضارات عطرا وافرا ثملا
تضوّعَ المجدُ منه حيثما سكبا”

يُوظّف الشاعر صورة العبق الحضاري ليُعبر عن ازدهار الماضي، فالتراث يُشبَّه بالعطر المسكوب الثمل، المنتشر حيثما انسكب. العطر هنا ليس فقط دالًا على الجمال، بل على الفاعلية الحضارية والتأثير العالمي. وقد جاءت لفظة “تضوّع” لتشير إلى الامتداد الزماني والمكاني لذلك المجد. غير أن انسكابه “حيثما سكبا” يحمل دلالة ضمنية على تبعثر القيم الحضارية، وكأنها لم تعد تستقر في مكان ثابت، بل صارت شذرات لا تجمعها بنية.

  1. رمزٌ مضى… وبقي العطاء

“قاد الريادة في الأصقاع منفردا
وأجزلَ الكرمَ المعطاءَ ما وهبا”

 

في هذا البيت الشعري، يستدعي الشاعر صورة القائد التاريخي الذي لم يكن مجرد شخصية حاكمة، بل مثالًا للريادة والعطاء الذي يتجاوز الحدود الجغرافية الضيقة. تعبير “الأصقاع” هنا لا يشير إلى أبعاد المكان المادية فقط، بل يحمل في طياته دلالات اتساع التأثير والامتداد. أما وصف “منفردًا” فيبرز تفرد الدور وتميز التجربة، مما يمنح الشخصية الموصوفة بُعدًا استثنائيًا.

البيت الشعري يخفي بين سطوره رثاءً لشخصية وطنية بارزة تحولت بفعل غيابها إلى رمز خالد. هذه الشخصية لا تكاد تُعرّف كفرد بعينه، بل هي انعكاس لهوية عراقية جماعية ارتبطت بالعطاء والتضحية. ويأتي الفعل “وهبا” في نهاية البيت ليضفي على مفهوم الكرم بُعد النبل الفطري، حيث يتم العطاء بلا مقابل، في إشارة إلى سمو القيمة الإنسانية التي تتخطى أي مردود مادي أو اعتراف.

يمكن قراءة هذا البيت في سياق التاريخ العراقي بوصفه تكريمًا لأولئك الذين قدموا أنفسهم في سبيل الشعب وتركوا خلفهم إرثًا معنويًا عظيمًا. هؤلاء القادة لم يسعوا لامتلاك القصور أو جمع الثروات، بل خطّوا نماذج أخلاقية مستوحاة منها الدروس حين تختل المعايير وتغيب القيم.

16.”قوى الشعب الخيّرة تنهض من بين الركام”

“دارُ المهابةِ بغدادُ الندى أبَدا
تزيحُ أجنحةَ الظلماءِ والحجبا”
يستدعي الشاعر صورة بغداد بكل عظمتها وكرمها الأصيل، لتكون رمزًا للوطن العريق الذي يحتضن العدالة والمعرفة. إن وصفها بـ”دار المهابة” لا يعد مجرد توصيف، بل يشير إلى مكان يتجاوز الجغرافيا ليكون بمثابة قوة رمزية تستطيع إحداث تأثير تاريخي وتغيير جذري. الاستعارة المستخدمة في عبارة “تزيح أجنحة الظلماء والحجبا” تعبر عن قدرة بغداد، بمعنى الوطن، على تبديد الظلام، سواء كان ذلك يتمثل في الجهل أو القمع أو الفساد، وكأنها شمس ترفع ستائر الليل عن وعي الشعب. في هذا الوصف، تظهر بغداد ليس كضحية فحسب، بل ككيان فاعل و نهضوي يمتلك في جوهره إمكانيات التغيير. هناك تلميح ضمني في هذا النص إلى أن القوى الخيّرة الكامنة في الشعب، كما حدث عبر تاريخ العراق العريق، قادرة على النهوض من بين الركام وتفكيك الحجب التي تراكمت حول الحقيقة والعدالة.

17. بغدادُ منبعُ العطاء والرحمة

“وتفرش الأرض عشب الخير من يدها
ليستريحَ بها من كان قد تعبا”

يصور الشاعر بغدادَ ككيانٍ رحيمٍ يغدقُ الخيرات على الجميع. إنّ “عشب الخير” الذي تُفرشه المدينة ليس مجرّد نباتٍ طبيعيٍّ، بل رمزٌ للعطاء اللامحدود، يستمدُّ قوته من “يد بغداد” الحاضنة التي تعبّت من وطأة التاريخ القاسي. ينتقل الوصف هنا من الألم الشخصيّ إلى تعبيرٍ وطنيٍّ، فتغدو بغدادُ ملاذًا للمُنهكين وأولئك الذين انهكهم الصراع، وكأنّها أمٌّ عادت لتضمّ أبناءها بعد طول غربة. بهذا، تتجلّى المدينةُ كقيمةٍ وجوديةٍ متجدّدةٍ تسهم في تخفيف جراح التاريخ وإعادة بناء الإنسان المُنهك.

18. الحنين والألم الوطني:

بغدادُ دمعة أيامي ولوعتها

وفي ثراها أرى الحلاّج قد صلبا
يتحول اسم “بغداد” في هذا المقطع إلى رمز للألم والتضحية، حيث يصفها الشاعر بأنها “دمعة أيامي”، معبّرًا عن حزن عميق يمتد عبر الأجيال.

ذكر الحلاج كرمز روحي

يربط القول “في ثراها أرى الحلاج قد صُلبا” بين معاناة المدينة ومعاناة عقلية وروحية متمثلة في مصير الحلاج، الذي يعتبر رمزًا للشجاعة الصوفية والسعي وراء الحقيقة. يأتي تصوير “الصلب” هنا ليس فقط كقمع جسدي، بل أيضًا كقمع فكري وروحي، يعبر عن التضحية من أجل الاستقامة والحقيقة.

دلالة الحرمان الروحي والفكري

يجمع الدمج بين بغداد والحلاج بين بعدين:

الأرضي: حيث أصبحت أرض بغداد علامة على الموت والامتهان (صلب الحلاج).

الرمزي: إذ يشير القيم التي يمثلها الحلاج إلى أن المدينة تعاني ليس فقط من فقدان الأمن، بل من فقدان حرية الفكر والروح.

أثر الصدمة في النفس الجماعية

تحولت القصيدة إلى صورة تجسد حنين المدينة لعصر لم تتخل سلطاته عن قيم الكرم والعرفان. إلا أن صورة الصلب الروحي للحلاج في ترابها تدلل على أن بغداد فقدت حتى القدرة على احتضان أفكار الصدق والروحانية، مما أبرز تساؤلات صارخة حول مصير الهوية الوطنية في ظل قسوة الزمن.

  1. الألم العميق والخسارة الحقيقية.

“دموعُ يعقوبَ تجري في مرابعنا
دماءُ يوسفَ ما كانت دماً كذبا”
فيستعير الشاعر صورًا قرآنية مكثفة للدلالة على الألم العميق والفقدان الحقيقي. دموع يعقوب ودم يوسف تُحيل إلى ألم الفقد الصادق، في مقابل خطابٍ معاصر قد يشكك في صدق هذا الألم. بهذا، يصبح الماضي النقيّ مرآةً لواقع ملوّث بالكذب والتشويه، وهو ما يعزز ثيمة الانفصال بين القيم الأصيلة والانهيارات الحديثة.

20. الانغماس في نشوة الوطن: خمرة الروح كذروة شعورية

25.“يا خمرةَ الروحِ والريحانِ تُسكرني
فأنهلُ الزقَّ حتى ألعقَ الحببا”

في هذا المقطع، يبلغ الشاعر ذروة وجدانية تتجلى في استعارة “خمرة الروح والريحان”، حيث تنصهر المشاعر الذاتية في رمزية مشبعة بالدلالات الصوفية. غير أن الخمرة هنا لا تُفهم ضمن إطارها الرومانسي أو الجسدي، بل تُستعاد بوصفها رمزًا للتجلي الروحي والانتماء الحميم إلى الوطن.

فالنداء الموجّه إلى “خمرة الروح” يشير إلى سعي داخلي نحو التحرر من وطأة الواقع، وانجذاب إلى لحظة صفاء يتجلّى فيها الوطن كمصدر للسكينة، تمامًا كما تُسكر الخمرة العارف الصوفي في حضرة المعنى الأعلى. أما فعل “أنهل الزقّ حتى ألعق الحببا”، فيعبّر عن حالة من التوق العميق إلى الامتلاء الروحي، حيث تتجاوز العلاقة مع الوطن حدود العقل والمنطق إلى مستويات من الشوق المُطلق والالتحام الوجودي.

ويأتي هذا التصعيد الشعوري في موقع استراتيجي داخل بنية النص، لا باعتباره خاتمة، بل كمحور دلالي ينقل القصيدة من مدارات التأمل العقلي والوجداني إلى أفق روحي أوسع، تتعزز فيه صورة الوطن لا كحيز خارجي فقط، بل كـ”معبود معنوي” تسعى الذات للذوبان فيه.

هكذا تتجلى في هذا البيت بذور الانزياح الصوفي الذي سيتواصل لاحقًا، مشكّلًا منعطفًا في النسق الشعري، وممهّدًا لتحولات لغوية وروحية تُكمل تجربة الشاعر في بحثه عن الطمأنينة والانتماء النقي.

  1. المدخل الموسيقي: تشكُّل الوجدان عبر المقامات

تشدو المقاماتُ في أفيائنا نغَما
كرْداً ،بياتاً ،نهاونْدا، وثم صَبا

يفتتح الشاعر بلغة موسيقية ذات دلالات ثقافية عريقة، تربط بين الصوت الروحي والمخيال الشعبي. هذه الموسيقى لا تُفهم فقط كزخرفة جمالية، بل كصوتٍ ينبض في الجغرافيا العراقية، يحمل معها الحنين إلى الانسجام والتناغم المفقود. ولكن في ظل هيمنة القوى الطائفية، يبدو هذا الغناء وكأنه صدى لحلم جماعي مُجهض، يتناغم ظاهريًا، لكنه مشروخ داخليًا.

  1. تفكيك مقولات العالم الأرضي: نقد السائد الأخلاقي

أكاد أربأُ من قولٍ حوى سفَها
يقضي بأنّ الدنى تأتي لمن غلبا

يتخذ الشاعر موقفًا واضحًا من الخطابات المهيمنة التي تبرر الهيمنة والقهر بمبدأ “الغلبة”، وهو هنا لا ينتقد منطق القوة كقوة فحسب، بل ينتقد شرعنتها باسم الدين أو القدر. فهذا “القول السفيه” قد يمثل خطابًا دينيًا أو سياسيًا سطحيًا يُبرّر الاستئثار بالسلطة باسم التفويض الإلهي أو إرادة الغالب، وهو منطق يُسهم في ترسيخ الفساد واللامساواة.

  1. ثروات الشعب أصبحت أداة منظمة للاستيلاء والنهب

وفي السماواتِ أذكارٌ وأدعيةٌ
تقول لي إنما الدنيا لِمن وهَبا

هنا يبلغ التهكم ذروته: فـ”الهِبة” التي تُقدّم في السماء كفعل روحي ــ تتحول على الأرض إلى آلية للنهب. يُوظف الشاعر خطابًا دينيًا مألوفًا (“الأذكار والأدعية”)، لكنه يُعيد توجيهه باتجاه نقدي، إذ تبدو تلك الأذكار كأنها تُبرّر توزيع السلطة والثروات على أساس الولاء الطائفي لا على أساس الكفاءة أو العدالة. هكذا، تنقلب “الهبة” من رمز للعطاء النبيل إلى أداة للتمييز الطبقي والطائفي.

  1. وهم السعادة: التباين بين مشاعر الطرب والحزن

لكنما السعْدُ لا يبقى إلى أمَدٍ
ففي الحنايا بكاءٌ لامسَ الطرَبا

يكشف هذا البيت عن المفارقة بين البهجة الظاهرية ــ ربما التي تمثلها طبقات النخبة المستفيدة من الفساد ــ والحزن الجوهري الذي يسكن الداخل. “الطرَب” هنا ليس فقط موسيقيًا، بل هو رمز للزيف والتخدير السياسي، في حين أن “البكاء في الحنايا” يمثل صوت الفقراء والمهمشين، الذين يُقصَون عن “الهبة”.

 

  1. 25. عطشٍ روحيٍّ لا يُروى إلا بالصفاء الحقيقي،

وفي الجوانحِ قلبٌ هدّهُ ظمأٌ
لا يرتضي الماء إلاّ زمزماً عذِبا

يختتم المقطع بصورة رمزية تمثل التوق إلى نقاءٍ روحي ووطنيّ لا يتحقق إلا بعد التحرر من فساد القوى المهيمنة. “الظمأ” هو ظمأ العدالة، لا يُروى إلا بـ”زمزم” نقي ــ وهو إشارة إلى طُهرٍ ديني حقيقي، لا إلى ما يُنتَحل من قداسة في الخطابات الطائفية. بهذا المعنى، يصبح البيت رفضًا ضمنيًا لأي “ماءٍ ملوّث” بالفساد، مهما ادّعى الطهارة

26. المنفى الذي كان أكثر وطنًا من الوطن

“وفي المنافي حبيبٌ أنَّ مبتعداً
وترقص الروحُ جذلى كلما قربا”

في هذه الأبيات، يُقدّم الشاعر صورة مفارِقة: المنفى، على قسوته، يحمل بعض الدفء، وربما بعض الوفاء. فالوطن هنا يصبح كـ”حبيبٍ” بعيد، لا يُطفئ الشوق لكنه يُبقيه حيًا. الاقتراب منه (حتى ولو عبر الذاكرة أو المناجاة) يمنح الروح لحظة بهجة. بيد أن هذا “الحبيب” لم يعد كما كان، وقد بدأ في التحوّل من حالة وجدانية مشعّة إلى كيان فقد أصالته بسبب اغتصابه.

27. رحلة العودة التي لم تحقق الاستقرار

 

“كأننا في رحيل دائمٍ أبدا
يبقى فتانا يعيش العمر مغتربا”

البيت يُكثّف تيمة الاغتراب الداخلي. لم يكن المنفى الحقيقي خارج الوطن فحسب، بل داخله أيضًا. فحتى بعد العودة، لا يجد الشاعر في الوطن مستقرًا، بل يعيش شعورًا دائمًا بالتيه، وكأن الوطن لم يعد مكانًا للاحتضان، بل صار امتدادًا للمنفى، أو أسوأ منه: منفى ملوّث بالخذلان.

28. ضياع الهوية في وطنٍ مغتصب

 

“لا مستقر له في أرضه وطرا
يضيع كالتائهِ الولهان مضطربا”

هذا البيت يُعبّر عن أقسى صور الغربة: أن تكون داخل الوطن، ولكن بلا مكان. الغربة لم تعد جغرافية، بل تحوّلت إلى فقدان الهوية والانتماء في وطن مسلوب الإرادة. الشاعر هنا يتقمص مشهد “الولهان” – الإنسان المتعلق عاطفيًا بمكان أو شخص، لكنه لا يستطيع أن يجد فيه راحة أو استقرارًا، لأنه بات مكانًا لا يُشبهه، ولا يعترف به.

29. الاضطراب الناجم عن الأعاصير السياسية والاجتماعية

 

“يا لَلأعاصير تعرونا وترعدنا
وتأخذ الصبرَ منا غيلةً نهَبا”

الأعاصير هنا ليست مجرد استعارة طبيعية، بل تُشير إلى الاضطرابات التي تعصف بالمجتمع والوطن: تقلبات الحكم، صعود قوى طائفية، وفساد ممنهج يسرق حتى صبر الناس. فالكارثة ليست في الظروف، بل في أنها تحدث “غيلة” – أي خيانةً وغدرًا، بما يؤكد أن الخطر يأتي من الداخل، من أهل الوطن أنفسهم، ممن تحوّلوا إلى وكلاء للنهب باسم الدين والطائفة.

30. العودة إلى الطفولة كملاذ داخلي

“تؤرجح الريحُ أحلامي وتحملني
إلى الطفولةِ أُملي سوحَها لعِبا”

أمام هذا الخراب، لم يجد الشاعر سوى أن ينكفئ على ذاته وذكرياته. الطفولة، بكل ما فيها من براءة ولعب وأمل، تبدو كآخر ما تبقّى من وطنٍ صافٍ ونقيّ. العودة إليها لا تمثّل حنينًا فحسب، بل بحثًا عن ملجأ أخير، عن نسخة من الوطن لم تلوّثها السلطة والطائفية والنهب.

  1. 31. استحضار لذّات الحياة في غروبها

وتستبيحُ هزيعَ العمْرِ، آخرَهُ
تذيقني الشهْدَ والأطيابَ والرطَبا”

يبدأ الشاعر من لحظة ضياع الزمن الأخير، حيث “هزيع العمر” يشير إلى الأواخر الباهتة من الحياة، لكنه لا يستسلم، إذ تستولي عليه ذكرى الوطن (أو الحبيبة/الحياة) وتغمره بلذّات رمزية: الشهد، الأطياب، والرطَب. هذه المفردات لا تعكس فقط النعومة والطعم الحلو، بل تشير أيضًا إلى أصالة النخيل، رمز الأرض والانتماء. وكأن الشاعر يقول: رغم ما مضى من وجع، ما زال للوطن طعمٌ لا يُنسى.

الدلالة: الوطن هنا ليس مكانًا فقط، بل مصدر دائم للعطاء حتى في لحظات الأفول. الحلاوة باقية رغم مرارة الزمن.

32. تقلبات الحب كما الريح المتقلبة

“لكنها الريحُ مهوى حبِّها قلِقٌ
ترى رضاءً وحيناً تلمحُ الغضبا”

يواصل الشاعر تصوير وطنه أو معشوقته عبر استعارة “الريح”، التي تُمثّل حالتها النفسية، حيث يتأرجح الحب بين الرضا والغضب، الهدوء والعصف. إنها صورة لحالة وطن لا يستقر، وحبٍّ لا يُطمأن إليه.

الدلالة: يجسد البيت تناقض الوطن المتعب، الذي يهبّ أحيانًا كنسمة، وأحيانًا كعاصفة، وكأنّه لا يملك قرار عاطفته ولا مصيره.

33. إعادة تعريف البطولة والقيادة

“لا للدماء ولا للسيف يحكمنا
إنّ البطولة فيمن يُحْكمُ العصبا”

هنا يتحول الخطاب من الوجداني إلى السياسي-الأخلاقي؛ فيرفض الشاعر ثقافة الدم والعنف، ويؤسس لفكرة قيادة تقوم على الحكمة والتماسك لا القمع. “العَصَبا” رمزٌ للجماعة المتمسكة، والتاريخ الحيّ.

الدلالة: البطولة الحقيقية لا تنبع من السيوف، بل من القدرة على إدارة التناقضات وتحريك الوعي الجمعي بروح مسؤولة.

34. ضرورة استئصال الفساد

“دع العقاربَ تحبو في خرائبها
لكنْ عليكَ بأنْ تستأصلَ الذنَبا”

يوظف الشاعر استعارة “العقارب” لتصوير الفاسدين والضالين، الذين يتغذون على الخراب. لكنه لا يدعو للمواجهة المباشرة، بل للتطهير العميق، لـ”استئصال الذنب” لا ملاحقة العرض.

الدلالة: هذا البيت دعوة إصلاحية ذكية؛ فهو لا يضيع الجهد في مطاردة التفاهة، بل يشير إلى العلاج الجذري من الداخل.

35. إرهاقٌ نفسيٌّ وبلوغُ حافةِ الانكسار

“ملّ الكلامُ وغامَ الحزنُ في كبدي
حتى يئستُ، مللتُ اللومَ والعتبا”

في هذين البيتين، يصل الشاعر إلى ذروةٍ وجدانية تتجلّى في انهيارٍ داخليّ يناهز القَدْر النهائي للتعب النفسي. يظهر التعبير “ملّ الكلام” دلالة واضحة على استنفاد اللغة وقدرتها على البوح، حيث باتت الكلماتُ مجرّد أصواتٍ لا توازي ثقل الألم. أما “غمُّ الحزن في الكبدي”، فإنّه استعارةٌ تحيل القلبَ الموعود تقليديًّا بشؤون العاطفة إلى “الكبد”، بصفته مَقرَّ الألم الجمعية والعائلي في التراث الشعري العربي، ما يعمّق إدراكنا لجِسامة المخاض النفسي.

يتابع الشاعرُ “حتى يئستُ، مللتُ اللومَ والعتبا” ليؤكد أنّ فعلَ اللوم والعتب لم يعد يُنقذُه، بل كان سببًا في تجدد جراحه دون بلوغ حلٍّ. هنا، لا يعني اليأسُ التخلّي عن الأمل أو الإيمان كليًّا، بل يشير إلى مرحلةٍ قصوى من الإعياء تقتضي تجنُّب تكرار الاتكال على اللوم كوسيلةٍ للتنفيس. إنّ هذه الصياغة الأكاديمية تُبرز أن الشاعرَ لم يختر الانهيار الكامل، بل أعلن استنفاد أدوات الشكوى وانتقل إلى وضعٍ يُفترَض أن يفسح المجال أمام العمل الجذري أو التأمل البنّاء في سبيل استعادة الثقة والكرامة.

أولاً: البنية النصيّة في قصيدة “إنما الدنيا لمن وهبا”

 الانزياح الدلالي والانفعالي والرموز البلاغية:

تتحرك القصيدة على عدة مستويات من الانزياح الدلالي والانفعالي، حيث لا تكتفي بمخاطبة الحس العاطفي، بل تُعيد ترتيب العلاقة بين اللغة والواقع، بين ما يُقال وما يُقصد. فالشاعر يُعيد صياغة واقعٍ ممزقٍ تحت غطاءٍ من الشعر الرصين، عبر أدوات بلاغية دقيقة تسخر من الخطابات الدينية والسياسية المهيمنة.

  • زمنيًا، يقارن الشاعر بين ماضٍ مشرقٍ يرمز إلى قيم البطولة والكرم، وبين حاضرٍ مهزوم يتسم بالفوضى واستلاب القيم.
  • دينيًا، تتحول الرموز المقدسة إلى أدوات للنهب والتسلط، ويكشف العنوان نفسه “إنّما الدنيا لِمن وَهَبا” عن انزياح ساخر من خطاب الورع الزائف الذي يمنح الامتيازات باسم الدين.
  • عاطفيًا، تتجلى اللوعة من خلال تحول مفردات الحب إلى مفردات موت وذبول: فـ”الحبيب رماد” و”الهوى خشب”، مما يعكس تصحرًا وجدانيًا يطال الفرد والوطن معًا
  • لغويًا، تتحوّل اللغة من أداة وصفٍ إلى أداة مقاومة ونقد داخلي، تعري الزيف السياسي والديني، وتنقل الألم الجمعي بلغة فردية مكثفة.
    في امتداد هذا البناء، يوظف الشاعر عددًا من الرموز البلاغية التي تعمق المضمون السياسي والوجداني:
  • الموت كأخ والدموع كأب: تجسيد للمأساة بوصفها جزءًا من النسب العراقي، وكأن الحزن صار قدرًا وراثيًا.
  • بغداد ككائن حيّ: رمز للاستمرارية رغم الخراب، مدينة “تنزف” لكنها “تضيء”، ما يعكس تمسكًا بالأمل في جوهرها التاريخي.
  • الجمرة في كفّ اليد: استعارة قوية للمسؤولية الأخلاقية تجاه الوطن، حيث تُحتضن المعاناة بوصفها شرفًا لا يُلقى جانبًا.

هذه الانزياحات والرموز تُنتج بعدًا شعريًا مركبًا: احتجاجيًا ووجدانيًا، يعكس وعيًا نقديًا يتجاوز الأسى الفردي نحو خطابٍ     اجتماعي وسياسي صريح.

 ثانيًا: البنية الموضوعاتية:

 

في توازٍ مع البنية البلاغية، تتسم البنية الموضوعاتية للقصيدة بثنائية حادة بين الحنين والخذلان، الانتماء والاغتراب، حيث يبدو الوطن كمساحة متناقضة، كان في الذاكرة موطنًا للمجد، وأصبح اليوم كيانًا مغتربًا مسلوب الهوية.

  • المنفى لا ينتهي بعودة الشاعر إلى الوطن؛ بل يتحول الوطن ذاته إلى منفى داخلي.
  • يتهم الشاعر قوى دينية طائفية وأجنبية ـ وعلى رأسها إيران ـ بأنها هيمنت على القرار السياسي وساهمت في تفكيك الهوية الوطنية.
  • يخرج النص بذلك من إطار الرثاء التقليدي ليدخل في بنية احتجاج صريحة، تُحمّل السلطة مسؤولية نفي المواطن عن تاريخه وجذوره، و تفضح استغلال المقدس لتبرير الهيمنة.

البعد الرمزي والديني:

أما البعد الرمزي والديني فيظهر في استثمار القصيدة لرموز ذات تأثير صوفي وديني، ليس لتعزيز قيمة المقدّس، بل بغرض تفكيك عمليات استغلاله. تلك الهبات الإلهية تحولت في النص إلى منح سلطوية زائفة تُفرغ الدين من قيمته الإنسانية وتجعل منه وسيلةً للتسلط والهيمنة. يتجلى هذا التناقض في استخدام البلاغة بشكل حاذق، حيث يُستخدم العنوان كنافذة لقراءة العلاقة بين الديني والسياسي، لتتحول ثروات البلاد من رمز للعطاء إلى أداة للسلب والنفوذ.

الوظيفة الخطابية:

 

من زاوية الوظيفة الخطابية، تمضي القصيدة بعيداً عن كونها مجرد مرثية عاطفية، لتمارس دوراً استنهاضياً يعيد تقييم الواقع. إنها أكثر من مجرد صرخة ألم، بل هي دعوة للمجتمع إلى رفض الهبوط والتحلل، مستعيدة رموزاً من التراث العراقي البطولي بغرض مواجهة التشويه الذي أصاب الهوية وتجديد الارتباط بها.

الخاتمة الدلالية للقصيدة

 

تنتهي القصيدة بما يمكن أن يُوصف بدلالة سوداوية تكشف عمق الخراب المنتشر في كافة المستويات: السياسية منها والروحية والعقلية وحتى في الخيال الجمعي. ورغم هذا الجو الكئيب، لا تخلو النصوص من بصيص أمل خفي يشير إلى إمكانية استعادة صورة الوطن النقية عبر مقاومة رمزية مستمرة تسعى لتجاوز حالة الانكسار.

 البُعد السياسي والاجتماعي في القصيدة

البعد السياسي والاجتماعي يظهر بوضوح في قصيدة “إنما الدنيا لمن وهبا”، حيث يقدم الشاعر صرخة نقدية تعبّر عن تحول العراق من رمز للمجد والكرامة إلى ساحة تفككت فيها القيم، وأصبح الفساد ومصالحه هو المحرك الرئيسي. تبدأ القصيدة باستدعاء أمجاد الماضي العظيم، ليس بغرض استجلاب الحنين فقط، بل لتسليط الضوء على التحولات الجذرية التي طالت الهوية الوطنية، حينما تحولت أدوات الخطاب الديني والسياسي إلى غطاء لمؤامرات قائمة على التواطؤ والاستبداد. هذه المؤامرات أفضت إلى تحالفات ظلامية، يمثّلها الشاعر برمز “إبليس وزمرته”، التي بسطت سيطرتها على المجتمع

على الصعيد الاجتماعي، ترسم الأبيات مشهدًا لواقعٍ هشّ تتضارب فيه معاناة الفقر والجوع مع حياة مترفة مغموسة في الفراغ واللهو العبثي. الوطن، كما يصوره الشاعر، بات فضاءً للتنافر، حيث يعاني البعض تحت وطأة البحث عن لقمة العيش، بينما آخرون يستغلون النفوذ في تعزيز مواقعهم. وبين الألم الفردي والوعي الجمعي، تتحول القصيدة إلى نداء عاجل لإعادة تعريف الوطنية على أسس تقوم على العدالة الاجتماعية والقيم الأخلاقية، بعيدًا عن الولاءات الضيقة والخطابات الطائفية.

بهذا الطرح، لا تكتفي القصيدة بكونها مجرد رثاء تقليدي للماضي، بل تقدم منهجًا احتجاجيًا يدعو إلى استرداد الوطنية الحقيقية، باعتبارها إحياءً للقيم النبيلة وإعادة بناء الثقة التي لطالما شكلت العمود الفقري لتاريخ العراق المشرق.

خاتمة

في ضوء التحليل السيميائي والقراءة البنيوية-السياقية، تتجلى قصيدة “إنما الدنيا لمن وهبا” كعمل شعري احتجاجي يعمق الوعي الوطني ويكشف عن أبعاده المتشابكة. ترتكز الدراسة على محاور أساسية تمثل نواة قراءة مركبة:

التفكيك السياسي:

تُظهر الأبيات الشعرية مدى انتشار الخداع والفساد في المجال العام، حيث تقدم رؤية نقدية لكيف تحولت فكرة المشروع الوطني إلى حلبة لصراعات طبقية وطائفية. يتمكن الشاعر من فضح آليات السيطرة والاستحواذ على السلطة التي شوهت معاني العدالة والنزاهة.

البعد البلاغي:

يعتمد النص الأدبي على مجموعة من الأدوات البلاغية الحية مثل التشخيص (الموت أخ، والدموع أب) والمفارقات (حلاوة مرة في حصرم الآلام)، إذ تتحول هذه الأساليب الإبداعية إلى وسيلة تعبير مركزة، تجعل الوطن في النص يبدو كحبيب متألم، مستحضرةً أعمق مشاعر الفقد عبر لغة تجمع بين البساطة والقوة التأثيرية.

الانزياح الانفعالي:

يرتكز العمل الشعري على مفارقة زمنية بين مجد حضاري سابق وانهيار حاد في الحاضر. يسعى الشاعر إلى دمج تجربة الرحلة المكانية مع المشاعر الداخلية عبر أسلوب سردي يجمع بين “شعر السير” و”شعر الغناء الحزين”، مما يضفي على النص بُعدًا وجدانيًا يمزج الألم الفردي بالحس الجماعي.

من خلال هذه المفاهيم، تتخطى القصيدة حدود توثيق التراجع الوطني لتصبح نموذجًا شعريًا يسعى للتغيير الجذري. لا يقتصر دور النص على الرصد، بل يقدم دعوة صريحة لتفكيك بنى السلطة التقليدية وإحياء القيم الثقافية والحضارية، مما يذكر القارئ بقوة الكلمة الشعرية كأداة لإعادة تشكيل الوعي الجمعي

في الختام، تفتح هذه الدراسة أفقًا جديدًا للتساؤل النقدي:

كيف يمكن للغة الشعر أن تسهم في بلورة مشروع وطني جديد يتجاوز أزمات الماضي، ويخلق توازنًا مرنًا بين البناء الثقافي والاعتزاز بالانتماء؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *