هل كان الشرع عميلا مخفيا للاستخبارات.. كيف تحول من أبو محمد الجولاني إلى “رجل أمريكا” في سوريا؟ – هشام عقراوي

في عالم السياسة، لا توجد صدف، ولا مواقف طارئة غير مدروسة. وحالة الرئيس السوري الجديد، أحمد الشرع – أو ما كان يُعرف سابقاً باسم أبو محمد الجولاني – تُعد واحدة من أكثر الشخصيات السياسية إثارة للجدل في المشهد السوري و حتى العالمي اليوم.

فكيف لزعيم جهادي كان يرفع شعار الجهاد العالمي، ويُعتبر أحد أبرز المتشددين الإسلاميين، أن يتحول فجأة إلى رئيس حكومة جديدة، ويُحتضن بقوة من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل والدول الخليجية الموالية لأمريكا و اروبا في ان واحد ، دون أن يُتعرض لحملة تكفير أو اغتيال من داخل صفوف التنظيمات التي كانت تابعة له قبل سنوات قليلة و تظل تأتمر بأمرته الى الان؟

من القاعدة إلى الرئاسة.. كيف بدأت اللعبة؟
يقول الباحثون في الشأن الأمني والاستخباري إن “الجولاني لم يكن فقط زعيماً لتنظيم جبهة النصرة (الفرع السوري لتنظيم القاعدة)، بل كان رمزاً للعنف المتطرف وخطاب التكفير الذي استهدف كل من لا يتبع نهجهم الإسلامي السياسي “. لكن المؤكد هو أن “هذا الرجل لم يظهر على الساحة كقيادي مستقل، بل تم بناؤه عبر شبكة معقدة من العلاقات الاستخبارية الدولية، خصوصاً الأمريكية، والتي عملت على دعمه منذ بدايات ظهوره في الثورة السورية ” أو لربما حتى عندما كان مسجونا في العراق في عصر الاحتلال الامريكي للعراق.

ويشير التاريخ إلى أن “الولايات المتحدة ليست غريبة عن سياسة زرع القيادات الجهادية داخل الحركات الإسلامية، ثم إعادة استخدامها لخدمة أجندات دولية بعد تغيير الأقنعة “، كما حدث مع تنظيم “القاعدة ” نفسه، حيث دعمت واشنطن أسامة بن لادن خلال الحرب السوفيتية-الأفغانية ، قبل أن ينقلب عليها وتقتله أمريكا نتيجة لذلك عام 2011.

هل الجولاني مجرد “بن لادن آخر”؟
الشبه كبير بين بن لادن والجولاني ، لكن الاختلاف الأكبر هو أن “الجولاني لم يتمرد على أمريكا الى الان، بل ظل ضمن الخط الذي رُسم له منذ البداية ” و الان خرج الى العلن. فبينما انقلب بن لادن على الولايات المتحدة بعد سحب الدعم عنها، ظل الجولاني (أحمد الشرع) موالياً للخط الأمريكي حتى بعد تولي السلطة في دمشق بعكس بن لادن لذي خان أمريكا بمجرد استلامهم للسلطة في أفغانستان.

وكان الجولاني قد أعلن انفصاله عن القاعدة في عام 2016 ، تحت اسم جديد هو “جبهة فتح الشام “، ثم تحولت الجبهة مرة أخرى إلى “هيئة تحرير الشام “، وهي خطوة رأت فيها بعض الجهات “انشقاقًا حقيقيًا “، بينما رآها آخرون “تمهيدًا لإدخال الجولاني في لعبة أكبر، تخدم المشروع الغربي في المنطقة “.

الجولاني.. وجه قديم للشرع؟
لا يمكن فصل ظهور أحمد الشرع كرئيس للسلطة الجديدة في سوريا عن الدعم اللوجستي والمالي والاستخباري الذي تلقاه من الولايات المتحدة، تركيا، السعودية، وحتى إسرائيل  و تركيا.

وقد كشفت العديد من المصادر أن “الجولاني لم يكن يومًا مستقلًا حقًا، بل كان دائمًا يتحرك ضمن إطار استراتيجي أمريكي، وربما إسرائيلي، لتوجيه ضربات مباشرة للنظام السوري ولإيران ولحزب الله “، وهو ما يجعل من ظهوره كرئيس مؤقت للحكومة السورية الجديدة ليس نتيجة ثورة حقيقية، بل نتيجة عملية تحوّل مخططة، تُعيد ترتيب المعادلات الإقليمية تحت غطاء “الانتصار العسكري” وليس “الانتصار الوطني” .

الدعم الغربي والأمريكي.. لماذا يتم تقبّل الجولاني بهذه السهولة؟
السؤال المحوري هنا هو: كيف لشخصية مثل الجولاني، كانت تقود تنظيماً مصنفاً “إرهابياً” دولياً، أن تتلقى دعماً من الدول ذاتها التي اعتادت مواجهة هذه الجماعات باسم “الحرب على الإرهاب”؟

الجواب يكمن في “الاستراتيجية الأمريكية الطويلة الأمد في الشرق الأوسط “، التي تسعى إلى:

تفكيك الهياكل التقليدية للدولة الوطنية .
بناء أنظمة محلية مرنة، تقبل بالوجود الأمريكي والإسرائيلي، وتتعامل مع الملفات الإقليمية ضمن خطوط حمراء أمريكية .
تحويل التنظيمات الجهادية إلى أدوات لـ”إدارة الفوضى” وليس لإنهائها .
ويؤكد موقع “ميدل إيست آي ” البريطاني، أن “الجولاني كان مرتبطاً بعلاقات استخباراتية مع الولايات المتحدة منذ بداية ظهوره، وقد سمح له بالتحرك بحرية في الشمال السوري، رغم تصنيفه كإرهابي من قبل الأمم المتحدة وواشنطن نفسها في الماضي “.

كما أن “الانفتاح الأمريكي غير المتوقع على الجولاني بعد سقوط النظام السوري، يُنظر إليه باعتباره جزءاً من استراتيجية أوسع لدمج الجماعات الجهادية في الخارطة السياسية، وفقاً لمبدأ “من يربح يُعاد توظيفه” “، وهو ما يُعيد للأذهان “التجربة الليبية والسورية والعراقية السابقة، حيث تم توظيف الجماعات المسلحة كأدوات لقلب الأنظمة، ثم تركها أو إعادة استخدامها وفق الحاجة “.

التعاون مع إسرائيل.. هل هو صدفة أم مشروع؟
واحدة من أخطر التطورات في الآونة الأخيرة هي “الانفتاح غير المعلن على إسرائيل من قبل الحكومة الجديدة برئاسة أحمد الشرع “، والذي يُعد مؤشراً خطيراً على طبيعة العلاقة المستقبلية بين سوريا الجديدة والكيان الإسرائيلي.

وقال المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا، توم باراك ، إن “الولايات المتحدة تشجع أي تقارب بين سوريا وإسرائيل إذا كان يساهم في تعزيز السلام والأمن الإقليمي “، وهو تصريح يُفهم منه أن “الجولاني/الشرع ليس فقط مقبولاً من قبل واشنطن، بل مدعوماً بشكل مباشر “. الى درجة أن أمريكا مستعدة للتضحية بقوات سوريا الديمقراطية الحليفة لها من أجل الجولاني. 

وقد ذكر موقع “تايمز أوف إسرائيل ” أن “الجولاني لم يعد يُعامل كإرهابي في بعض العواصم الغربية، بل كـ”لاعب استراتيجي” في إعادة تشكيل المعادلة السورية “، وهو ما يعكس “التحول الكامل في الصورة العامة للرجل، الذي لم يُعد يخفي صوته الجهادي، بل بدأ يتحدث بلغة الدولة، ويستخدم خطاباً أقل تشدداً، ويضع نفسه في موقع “الحاكم المدني” وليس “القائد الجهادي” .

لكن السؤال الحقيقي هو:

هل هذه التحولات حقيقية، أم أنها مجرد تمويه سياسي؟ وهل يمكن الوثوق بزعيم جهادي تخلّى عن شعاراته فجأة ليصبح حليفًا لإسرائيل وتركيا والسعودية؟

الجولاني.. والدعم الغامض من الجميع
ما يثير الدهشة هو أن “الجولاني لم يفقد الدعم من أمريكا وحلفائها، بل لا يزال يحظى بقبول من داخل صفوف الجماعات الجهادية التي كانت تابعة له، رغم تحوله الكبير في الخطاب والممارسة السياسية “.

وبينما يُقتل أو يُتهم أو يُتهم بالإرجاء أي زعيم جهادي يحاول الانفتاح على الغرب أو التطبيع مع إسرائيل ، فإن الجولاني يبدو “استثناءً غريباً “، حيث “لم يُعلن أحد من داخل الجماعات الجهادية الكبرى عن رفضه أو تكفيره، بل على العكس، يبدو أن الكثير من هذه الجماعات لا تزال تراه قائدها الروحي أو السياسي “. و حتى منشورات داعش و الانصار  المعادية علنا للجولاني فأنها في الحقيقة تأتي من أجل التمويه على سياسة الجولاني.

وهذا الواقع يعزز فكرة أن “الجولاني ليس مجرد زعيم متطرف، بل هو شخصية تم زرعها داخل الحركة الجهادية من البداية، وتم بناؤها كأداة استراتيجية، لا كمشروع وطني حقيقي “.

الجولاني في العمق.. علاقة مشبوهة مع الاستخبارات الأمريكية
بحسب ما نشرته صحيفة “نيويورك تايمز “، فإن “الجولاني كان هدفاً للمباحثات الاستخبارية الأمريكية منذ بدايات ظهوره، وكان يُدار عبر شبكة واسعة من الوكلاء والوساطات، مما يشير إلى أن علاقته مع الاستخبارات الأمريكية ليست جديدة، بل تمتد لسنوات “.

ويضيف التقرير أن “الجولاني كان يحصل على معلومات استخبارية دقيقة، وربما تسليح، من خلال وسطاء في تركيا وسوريا ولبنان، وربما حتى داخل العراق، وهو أمر يُظهر أن العمليات التي قادها ضد النظام السوري لم تكن عفوية، بل كانت موجهة ومدعومة من الخارج “.

وقد أكدت مصادر من داخل المعارضة السورية أن “الجولاني لم يكن يومًا مستقلًا في قراره، وأن تغيراته السياسية كانت دائماً مرتبطة بتطورات إقليمية وضغوط استخبارية خارجية، وهو ما يجعل من شخصيته عميلاً أكثر مما يجعلها قائداً ثورياً حراً “.

الدعم الأمريكي.. هل هو استثناء أم استراتيجية؟
الخبراء يرون أن “الدعم الأمريكي للجولاني ليس استثناءً، بل هو جزء من استراتيجية أوسع تستخدم الجماعات الجهادية كأدوات سياسية في الشرق الأوسط “، كما حدث مع: أسامة بن لادن ، الذي دعمته أمريكا في أفغانستان، ثم قتلته عندما تمرد عليها.
الإخوان المسلمين ، الذين دعمتهم الولايات المتحدة في مصر، ثم وقف ضدهم عندما تحالف بعضهم مع إيران أو روسيا.
حركة طالبان ، التي تتحدث معها واشنطن اليوم وكأنها شريك طبيعي، رغم تصنيفها كإرهابية بالأمس.
وهذا الواقع يعزز فكرة أن “الجولاني/الشرع لم يكن يوماً زعيماً مستقلاً، بل هو جزء من لعبة أوسع، تُستخدم فيها الجماعات الإسلامية كأداة لإدارة الصراعات الإقليمية، وليس إنهائها “.

الذين كانوا معه بالأمس.. يدعمونه اليوم
أكثر ما يثير الشكوك حول حقيقة دور الجولاني هو أن “القوى التي دعمته بالأمس كجهادي، هي نفسها التي تدعمه اليوم كرئيس لدولة تدعي العلمانية “.

السعودية ، التي كانت تُموّل الجماعات الجهادية في سوريا، دعمت الجولاني في مراحل مختلفة.
تركيا ، التي كانت تفتح الحدود أمام الجماعات الجهادية، أصبحت اليوم “الضامن الأول للجولاني في الشمال السوري، وشريكه الأساسي في بناء الدولة الجديدة “.
الولايات المتحدة ، التي كانت تُصنفه كإرهابي، أصبحت “الراعي الرسمي لانتقاله من التنظيمات الجهادية إلى الحكم المدني “.
إسرائيل ، العدو التاريخي لكل الجماعات الجهادية، تُمارس اليوم “سياساتها التصالحية مع الجولاني/الشرع، وتُعتبره شريكاً محتملاً في مكافحة النفوذ الإيراني في سوريا “.
وحين يُقارن وضع الجولاني بمصير أبي بكر البغدادي ، مؤسس داعش، الذي قُتل بعملية أمريكية مباشرة، أو بـأبي محمد العدناني ، المتحدث باسم داعش الذي قُتل بضربة جوية أمريكية، تظهر الفجوة الكبيرة في التعامل مع الجولاني، مما يُشير إلى “اختلاف طبيعة العلاقة بينه وبين الاستخبارات الأمريكية “.

هل الجولاني مُجرد “بن لادن جديد”؟
الخبراء يرون أن “الجولاني لم يخرج من تحت السيطرة، بل ظل ضمن الحسابات الأمريكية منذ البداية، وهو ما يجعل مصيره مختلفاً عن مصير بن لادن “.

وقال الباحث في الاستخبارات الدولية، د. روبرت هاريس ، إن “الفرق بين بن لادن والجولاني هو أن الأول خرج عن السيطرة، بينما الثاني ما زال يُستخدم كأداة لتحقيق أهداف استراتيجية في المنطقة، وهو لذلك لن يُقتل، بل سيُحتضن، طالما بقي ضمن الخط المرسوم له “.

وأضاف: “إن الجولاني ليس بديلًا عن النظام السوري، بل هو تجسيد لرغبة أمريكية في بناء كيان حكم جديد في سوريا، يكون مرناً مع إسرائيل، ومتعاوناً مع تركيا، ومهادناً للغرب، ومستمراً في تقديم نفسه كـ”منقذ الشعب السوري”، في حين أن الحقيقة ربما تكون أن هذا المنقذ هو مجرد أداة في يد القوى الخارجية، تُستخدم لخدمة أهدافها الجيوسياسية “.

الكورد.. هل هم ضحية التعاون الجديد؟
في الشمال، يشعر الكورد بأن “الاتفاق بين الجولاني/الشرع وتركيا يهدد حقوقهم، خاصة بعد تصريحات أنقرة بأنها ستسيطر على العملية السياسية في سوريا، وأن الكورد لن يكون لهم مكان في الإدارة الجديدة إلا ضمن خطوط حمراء تحددها تركيا وحلفاؤها المحليون “.

وقد أعرب صلاح الدين بيرقدار، القيادي الكردي ، عن مخاوفه قائلاً: “الجولاني لم يعد يقاتل نظام الأسد، بل يبني نظاماً جديداً لا يختلف كثيراً عن النظام السابق، فيما يتعلق بإقصاء المكونات الأخرى. وهذا يدفعنا للتساؤل: هل الثورة كانت ضد الأسد أم ضد السوريين أنفسهم؟ ”

“أحمد الشرع.. من الجولاني إلى رجل أمريكا وإسرائيل في سوريا: هل هو تحرر أم إعادة تدوير؟”

الجولاني ليس زعيماً مستقلاً، بل هو شخصية تم تدجينها عبر عقد من الزمن، وتحولت من أداة لضرب النظام إلى أداة لبناء نظام بديل يخدم المشروع الغربي والإسرائيلي . الدعم الغربي والتركي والسعودي له يتجاوز مجرد التكتيك العسكري، ويُعد جزءاً من إعادة هيكلة السياسة السورية، بحيث تصبح البلاد دولة تابعة، وليس حليفة حرة .
الدروز والأكراد والعلويين وغيرهم من المكونات السورية يشعرون بأنهم “ضحايا السياسة الدولية الغربية التي تقوم على  إعادة ترتيب جهادي الى سياسي “.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *