مخاطر ما بین السطور- د. عبدالباقي مایی

 

هنالك ظاهرة لم تظهر لی قبل الآن بأنها قد تكون صفة مميزة للطبقة المثقفة فی كوردستان إلا قبل أيام عندما كشف أحد المبدعين فی كتابة النقد السیاسی للأوضاع الراهنة فی كوردستان بأسلوب جرئ قلما تجده لدی الطبقة المثقفة الواعیة من الكوادر الحزبية فی أقلیم كوردستان العراق. هذه الظاهرة هی عبارة عن فهم المواضيع من خلال قراءة ما بین السطور “لا فقط ما هو مكتوب بحروف واضحة”. قد تكون هذه الظاهرة صفة مميزة لبعض الكتاب أكثر من غيرهم وذلك قد يكون دليلا علی براعتهم و موهبتهم فی ذلك الفن أكثر من غيرهم، وتكون الظاهرة بذلك تعبيرا جيدا لقابلية فريدة تعطي لصاحبها طاقات مميزة لفهم ما يكتب مجازا أو رمزیا لشئ غیر ملموس أو لموضوع غیر مسموح بالجهر به لسبب ما. ولكنها تظهر لی بأنها تسمح أیضا بفهم الموضوع بصورة أخرى غیر التی يقصدها الكاتب، بل ينبع هذا الفهم من تأويل القارئ و تفسيره للكلمات والعبارات وإدراكه المبنی علی تصوره الفكري و خلفيته الثقافية وخبراته الشخصية وكفائاته التی أبدع فی تكوینها من خلال عبوره بسلام للأزمات النفسية و تسلحه بالخبرات الشخصية بعد التعرض لحالات أو أوضاع سیاسیة أو إجتماعية تفرض الكتمان وتحث علی التعبير الرمزي بدلا من الصراحة و الشفافية والوضوح.

تأويل التعبير المجازی، كما فی الأعمال الشعرية والنثر الأدبي والنصوص الدینیة والأعمال الفنية والتحلیل النفسی وغير ذلك من الرسائل المقصودة بها فتح النوافذ والأبواب المغلقة لدی القارئ لجعله يفصح عن معاناته أو یكشف عن أسراره أو يساعده علی التمتع بذكرياته وأحاسيسه، أمر واقعی موجود لا ریب فیه ولیس بالغریب أو العجيب إن عبر الشخص فی تأویله الشخصی وتفسیره الخاص لهذا الإنتاج المبدع أو ذاك لإنه موجه لهذا الغرض كما یقول المثل “المعنى فی قلب الشاعر”. ولكن الأمر يختلف تماما عندما يتعلق بالنقد والتحليل والترجمة والتقرير والتأليف الموجه للفهم والتبليغ والتوعية والتربية والتثقيف. ففی هذه الأعمال یكون القصد عادة هو إيصال الرسالة بصورة واضحة للقارئ لكی یستطیع إستیعابها وفهمها كما هی دون أن تسمح بالشك أو التحليل والتأويل. فالوضوح فی التعبير هنا يفرض علی الكاتب إختيار الكلمات المكشوفة والمفهومة من قبل الجميع أو من قبل أغلبية القراء علی الأقل، وكذلك وضع النقاط علی الحروف كلما أتت كلمة أو عبارة لها معان عديدة وذلك لتفادي سوء الفهم أو عدم التقاط الرسالة بصورتها الصحيحة.

هنا نأتي إلی أهمية الموضوع عندما یكون القصد من كتابة الرسالة هو تبلغ الناس بحقائق ملموسة سواء” كانت حقائق علمية أو تعليقات علی موضوع ملموس أو نقدا لسياسة أو سلوك معين. فكلما كان النص واضحا یكون الوصول إلی الهدف المقصود أكثر دقة وأصدق إستلاما وأفضل فهما وإدراكا، فتكون النتيجة أكثر فعالية وتأثيرا. وكلما كانت الكلمات عامة دون تحديد، أو ذات معان عديدة أو غريبة الإستعمال، كانت النتيجة عدم فهم الموضوع بصورة صحيحة أو ترك المجال لخیال القارئ بأن “يفهم ما بین السطور” فينتج ما يلائمه و یترك ما لا یعنیه.

من مخلفات الثقافة السیاسیة فی أقلیم كوردستان العراق غیاب الشفافیة فی الخطاب السیاسی، و ذلك لأسباب عديدة قد تحتاج إلی خبير سیاسی لشرحها، ولكن أستطیع هنا أن أذكر بعضها فيما يتعلق بإختصاصی كطبيب إخصائي فی الأمراض النفسية للأطفال والمراهقين، ومنها الخوف من التوضيح والتعبير عن الرأي. فمن الأركان المهمة فی تربیة الطفل فی المجتمع الجماعی فی كوردستان هو التخویف أی إستعمال التهدید والتوعید لإجبار الطفل علی الطاعة والولاء. وعندما تكون السياسة أیضا وسيلة لتخویف المعارضين للسلطة یصبح النقد إما كاتما أو مكتوبا بأسلوب غامض بعيدا عن الشفافية والوضوح، فتكون النتيجة إبداعا” فی فهم مابين السطور و فی أغلب الأحيان بعيدا” عن ما یقصده الكاتب. هنا تكون السياسة فی خدمة السلطة وليست فی صالح الشعب.

٦\٦\٢٠٢٥

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *