يواجه العراق تحدياً مائياً خطيراً يهدد الأمن الغذائي، والصحة العامة، وسبل العيش لملايين السكان، ولم تلق هذه الأزمة، التي تتفاقم سنة بعد أخرى معالجة جدية من الجهات المختصة، رغم أن تداعياتها تنذر بعواقب لا يمكن تجاهلها.
ومع استمرار تراجع الموارد المائية القادمة من تركيا، يجد العراق نفسه أمام أزمة وجودية، تستوجب قرارات حاسمة ومسارات جديدة في الإدارة المائية.
من بين العوامل المؤثرة في هذه الأزمة ضعف الأداء التفاوضي العراقي في ملف المياه، خصوصاً مع تركيا، التي تواصل بناء السدود على نهري دجلة والفرات، مما يقلل حصة العراق المائية بشكل كبير.
المفارقة الكبرى أن العراق يفتح أبوابه للبضائع التركية ويستورد منها بمليارات الدولارات سنوياً، لكنه لم يستثمر هذا التبادل التجاري الكبير للضغط على أنقرة لضمان حصته من المياه، مما يعكس غياب التخطيط الاستراتيجي في إدارة الموارد الحيوية.
وإلى جانب مشكلات الحصص المائية، يغيب عن العراق خيارٌ آخر يمكن أن يكون حلاً عملياً ومستداماً، وهو تحلية مياه البحر. ففي ظل العجز المتزايد في واردات المياه، يمكن لمشاريع التحلية أن توفر مصادر إضافية للمياه، سواء للشرب أو الزراعة.
خصوصاً في المحافظات الجنوبية التي تعاني شحاً كبيراً في المياه الصالحة للاستخدام. العديد من دول المنطقة، مثل السعودية والإمارات، تعتمد على تحلية المياه كحل أساسي لتأمين احتياجاتها، بينما العراق لم يتحرك جدياً لاستثمار هذه التقنية، رغم امتلاكه سواحل على الخليج العربي.
لاشك ان تفاقم أزمة المياه في العراق أصبح عاملاً مباشراً في انتشار الأمراض المرتبطة بتلوث المياه، فالأمراض الناتجة عن التلوث، مثل الكوليرا والتهاب الكبد الفيروسي والإسهال المزمن، باتت تهدد الفئات الأكثر ضعفاً، خاصة الأطفال وكبار السن.
ومع شح المياه العذبة، باتت مياه الصرف الصحي تتسلل إلى مصادر الاستخدام اليومي، مما يزيد من خطر التلوث الكيميائي والبيولوجي ايضا. هذه المشكلة تنعكس كذلك على القطاع الصحي، حيث يواجه العراق ارتفاعاً في معدلات الإصابة بالأمراض المنقولة عبر المياه.
وإذا استمر العراق في تجاهل هذه المشكلة، سيجد نفسه غير قادر على توفير المياه للمواطنين والمزارعين، مما سيؤدي إلى تراجع الإنتاج الزراعي، وارتفاع معدلات الهجرة الداخلية، واتساع رقعة التصحر.
إن استمرار هذا النهج قد يدفع البلاد إلى نقطة اللاعودة، حيث يصبح العجز المائي عاملاً رئيسياً في زعزعة استقرار الدولة والمجتمع.
المطلوب بشكل عاجل وضع استراتيجية وطنية شاملة تتضمن إعادة النظر في العلاقات التجارية مع تركيا واستخدامها كورقة ضغط لضمان الحقوق المائية، والاستثمار في مشاريع تحلية مياه البحر لتأمين مصادر جديدة للمياه، وإصلاح البنية التحتية لشبكات المياه وتقليل الهدر بما يساهم في تحسين إدارة الموارد المتاحة، وتفعيل الاتفاقيات الدولية بشأن الأنهار المشتركة والدفاع عن حقوق العراق المائية.
إن التعامل مع أزمة المياه بمنطق اللامبالاة او الحلول المؤقتة لم يعد كافياً، فالعراق يحتاج إلى رؤية استراتيجية طويلة الأمد تعيد صياغة سياساته المائية وتضع حداً لسياسات التجاهل التي تهدد مستقبل الدولة.