في منعطفٍ قاتمٍ من تاريخ الكتابة السورية، يخرج بيان رابطة الكتّاب السوريين ليُدافع، لا عن حرية التعبير كما يزعم، بل عن حرية العنصرية في أقبح تجلياتها. بيانٌ انحاز فيه أصحاب الأقلام، أو بعضهم، إلى خطابٍ مقيت تبنّاه الكاتب إبراهيم الجبين، الذي لم يكتفِ بتشويه الحقيقة، بل اعتدى على كرامة مكوّن سوري أصيل، هو الشعب الكوردي، متجاهلًا أنه على أرضه التاريخية، وأنه لم يهبط من سماء الفوضى، بل خرج من رحم ميزوبوتاميا، حارسًا للماء والتراب، ومناضلًا من أجل الاعتراف لا الهيمنة.
ما قاله الجبين ليس رأيًا، بل جريمة فكرية مغلّفة بالبلاغة الرديئة، تشبيه الكورد بالإيغور، ثم بالبغال، ووصفهم بالمهربين، ليس نقدًا، بل استعلاء وقح، ورغبة دفينة في إعادة إنتاج السردية البعثية التي دمرت البلاد، وبنت دولتها فوق أشلاء الشعوب.
أن تمرّ مثل هذه العبارات دون إدانة من الرابطة، بل أن يُصوّر من يردّ عليها كأنه تهديد ووعيد، فهذه سقطة أخلاقية وفكرية لا تليق بمؤسسة يُفترض أنها تدافع عن الكلمة لا تسخّرها لتمزيق النسيج السوري.
لقد كتب الكاتب (ماهين شيخاني) ردّه على الجبين بوضوح وشجاعة، لا دفاعًا عن فكرة أيديولوجية، بل عن كرامة شعب يتم تشويهه ليلًا نهارًا تحت ذريعة الحفاظ على وحدة سوريا، وكأن هذه الوحدة لا تتم إلا بإقصاء الكورد من تاريخهم، وتشويه نضالاتهم، والتشكيك بأبسط حقوقهم في الوجود.
كان من المفترض أن تقف الرابطة إلى جانب من يواجه خطاب الكراهية، لا أن تختبئ خلف شعار “حرية التعبير” لتدافع عن شخص يستخدم الإعلام كمنبر للطعن بمكوّن وطني كامل. من المخجل أن يُتَّهم الكاتب الذي رد على الإهانة بأنه يهدّد، بينما لا تُدان الكلمات التي شبّهت شعبًا بأكمله بالبغال والمهربين!
بل وبلغ الابتذال مبلغًا أن يصدر بيان رسمي ضد كاتب كوردي لأنه “تجرأ” على قول الحقيقة.
هل كانت الرابطة ستتخذ الموقف ذاته لو كان الكاتب المعتدى عليه من طائفة دينية أو قومية أخرى؟ أم أن الكورد لا يزالون، في الوعي المستتر لبعض النخب، ضيوفًا غير مرغوب فيهم على مائدة الوطنية؟
إبراهيم الجبين، الذي كان يومًا أحد مروّجي مشروع “إعلان سوريا الاتحادية”، لم يلبث أن خلع قناع التعددية، ليتحوّل إلى خصم شرس لكل ما يمتّ إلى الكورد بصلة، فهو لا يهاجم فقط الشعب الكوردي، بل يهاجم حراكه السياسي، ويسخر من تضحياته، ويشكك بشرعية نضاله، وكل ذلك تحت ذرائع متبدلة، تارة باسم وحدة البلاد، وتارة باسم مقاومة “الانفصالية”.
الجبين يمثّل مجموعة من الكتّاب والمثقفين العرب الذين يجرون خلفهم شريحة واسعة من العروبيين البسطاء، والسذج، العابثين في مواقع التواصل الاجتماعي، لم يغادروا بعد دهاليز العقل البعثي، أولئك الذين يكرهون، في أعماقهم، أي وطن يكون للكورد فيه شراكة حقيقية، هؤلاء لا يعادون الكورد فقط، بل يعادون الفكرة الوطنية ذاتها حين تكون شاملة ومتعدّدة.
هؤلاء لا يريدون وطنًا جديدًا، بل يريدون فقط واجهة إعلامية جديدة تُعيد إنتاج خطاب قديم.
والهجمة التي ادّعت الدفاع عن الجبين، ما هي في الحقيقة إلا انعكاسٌ لموقفٍ جمعيٍّ عدائي تجاه الكورد، لا يعترف بوجودهم إلا إذا صمتوا، أما حين يتكلّم كتّابهم، حين ينبّهون أمثال الجبين إلى خطورة الخطاب العنصري، ويطالبون بترسيخ البعد الوطني الجامع، تُسلَّط عليهم سهام التخوين، ويُصوّرون كخطرٍ على “الوطنية”، تلك الوطنية التي اختزلها البعض بلون واحد، ولهجة واحدة، وتاريخ مكتوب بممحاة.
إن الوطنية التي لا تعترف بالكورد وطنًا وهويةً وتاريخًا ليست وطنية، بل نسخة باهتة من فكرٍ أمنيٍّ تواطأ مع البعث لعقود. والوطن لا يُبنى بإعادة تدوير نفس الأساطير عن “سوريا العربية الواحدة”، بل باعترافٍ كاملٍ بأن سوريا أمّة متعددة، لا تكتمل دون الكورد والسريان والآشوريين وغيرهم من المكونات التي لطالما كانت مادة للإنكار القومي.
حين كتب ماهين ردّه، لم يكن يبحث عن مجد شخصي، بل كان يدافع عن حقه في الرد، عن حقه في تسمية العنصرية باسمها الحقيقي، وعن مسؤولية الكاتب في ألا يُجمل الخيانة الوطنية بلغة الشعر الرديء.
ومَن يُطالب اليوم بإسكات صوته، ويصفه بالمهدّد، إنما يعيدنا إلى زمنٍ كان فيه من يُدافع عن المظلوم يُزجّ في السجون، ومن يُحرض ضد شعبٍ كامل يُعيَّن في وزارة الإعلام.
إن الرابطة بهذا البيان، وبهذا الاصطفاف، لا تحمي حرية الرأي، بل تقتلها، لا تدافع عن الكلمة، بل تحوّلها إلى خنجر ضد الضعفاء.
فالكورد حين يكتبون، يكتبون بدم الشهداء، وبعرق الجغرافيا، لا بكيد الغرف المغلقة.
والردّ على الجبين ليس تهديدًا، بل هو التنفّس الأخير لكرامة وطنٍ لا يزال بعض مدّعيه يرفض الاعتراف بأبنائه.
ورغم كل ما ورد، لا تزال لدينا فسحة من الأمل.
نأمل من الكاتب إبراهيم الجبين، ومن غيره من المثقفين والكتّاب الذين يهاجمون الشعب الكوردي بأساليب مباشرة أو ملتوية، ومعهم رابطة الكتاب السوريين، أن يعيدوا النظر، لا فقط في أقوالهم، بل في ضمائرهم.
الوطن لا يُبنى بالعداء، ولا تُؤسّس الدولة على نبذ المكوّنات الأصيلة، عداء الكورد، منذ قرن من الزمان، لم يجرّ على سوريا والمنطقة إلا الخراب، كُره الشراكة لم يصنع دولة، بل رسّخ الطغيان، وعمّق الكراهية، وأجهض أي محاولة حقيقية للتقدّم.
آن الأوان لأن نغادر عقلية الحصار والخوف، وأن نؤمن بأن سوريا لن تقوم إلا على أكتاف جميع أبنائها، عربًا وكوردًا وسريانًا وآشوريين وسواهم، إن الاعتراف بالشعب الكوردي ليس منّة، بل ضرورة وطنية وأخلاقية، ومن واجب من حمل القلم أن يكون أول من يعلن ذلك، لا آخر من يعترف به مضطرًا.
ونذكّركم، لا تصنع الكلمة وطناً إن كانت أداةً للطعن في الظهر.
الكرامة لا تُساوَم، والوجود لا يُعتذر عنه، والكورد، مهما كرهتم أو أنكرتم، باقون في وطنهم، وفي ذاكرتهم، وفي ذاكرتكم، شاء خطابكم أم أبى.
دعونا نكتب وطنًا لا يشبه خرائط الخوف، ولا يمحو الهويات، بل يحتضن الجميع بعدالة وكرامة.
فالوطن لا يُبنى بصفّ الكلمات، بل بصدق النوايا.
والكلمة التي لا تسند الحق، ليست حرّة، بل خائنة.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
10/6/2025م