———————-
في الزمن السوري، كما في أغلب تجارب الشعوب المقهورة، لا يُهزم النظام وحده، بل يُهزم معه جزءٌ من الوعي، ويُختبر صدق الخطابات، وتنكشف المواقف. لكن شيئًا واحدًا ظلّ صامدًا، عصيًا على الانقراض: مهنة التطبيل.
لقد عايشنا في بدايات الثورة السورية مطبّلين تقليديين للنظام، أمثال خالد عبود وشريف شحادة، من أولئك الذين لا تهتز شفاههم وهم يقولون إن الشمس تشرق من مكتب الأمن، وإن الوطن يُختصر في صورة الرئيس. لم يكن هؤلاء يمثلون مفاجأة، فهم أبناء المدرسة البعثية بامتياز، وقد تدرّبوا على التصفيق كما يتدرّب الجندي على إطلاق النار.
لكن المفارقة الكبرى لم تأتِ من هؤلاء، بل من الذين ظنّهم الناس ثوارًا، فإذا بهم ينقلبون بزاوية حادة، أو كما نقول بالعامية السورية “كَعْكَعوا” أو “كَوَعوا”، حين بدأت ملامح الانتصار تلوح، فراحوا يتقلبون في مواقفهم كما تتقلب الحرباء في الضوء.
قسم منهم، في خضم الثورة، كان شغله الشاغل مهاجمة جبهة النصرة وقائدها أبو محمد الجولاني، بل ذهب بعضهم للقول إن الجولاني وجماعته أخطر من النظام، وإن هزيمتهم شرط لانتصار الثورة! في تلك اللحظة، بدا هؤلاء وكأنهم يخوضون معركتين: واحدة ضد الأسد، والأخرى – الأشد حدة – ضد من يقاتل الأسد.
ثم… لمّا ضعُف النظام، وانقلبت الطاولة، إذا بهم يخرجون علينا بخطاب مدهش: “كنا نحب الجولاني سرًّا”، لكن لم نجرؤ على البوح، بسبب “الظروف الإقليمية”، و”البيئة غير المرحبة”، و”المجتمع الدولي”! فجأة صار الجولاني رجل المرحلة، القائد الحكيم، صانع التوازن، وراحوا يبررون انقلابهم بعبارات خجولة لا تخلو من التذاكي، حتى يخال المرء أنه أمام مسرحية متقنة الإخراج، تنتهي دومًا بتصفيق الطبالين.
بالمقابل، ظهر مطبلو النظام بنسخة محدثة: أولئك الذين كانوا يظهرون بمظهر المعارض “الوطني الشريف”، ثم حين ضاقت حلقات الثورة، وانكشفت نهايات البعض، قالوا: “كنا نكره النظام في السر، لكننا لم نستطع البوح!”. خذ مثلًا دريد لحام، الذي ارتدى في التسعينات قناع الناقد الساخر، ثم ما لبث أن انقلب على خطه القديم ليعلن أن “الوطن هو حيث يكون القائد”! وكأن القهر كان وهْمًا، والسجون كانت غرفَ استجمام.
وجاءت القشة التي فضحت الجميع، حين خرج علينا حسن صوفان، عضو لجنة “السلم الأهلي”، وهو يسخر علنًا من المطالبين بمحاسبة المجرمين، وعلى رأسهم فادي صقر، المعروف بجرائمه في أحياء دمشق. لم يقل: لنعفُ عن البعض ونحاسب البقية، بل قال بكل وضوح: دعونا نحتفل بالجزارين على أنهم حمائم سلام.
وما إن انتهى المؤتمر حتى “كَوَع” من تبقى من المترددين، وراحوا يُنظّرون في فوائد العفو، وضرورات الاندماج، وأهمية بقاء القتلة بيننا من أجل السلم الأهلي! وكأن الاستقرار لا يتحقق إلا بإطلاق سراح القَتَلة، وكأن العدالة عبءٌ ثقيل لا تستقيم الدول بوجوده.
لكن الحقيقة التي يهرب منها الجميع أن العدالة هي الشرط الأساسي للسلم الأهلي الحقيقي، وليست عائقًا له. بل إن تجارب الشعوب أثبتت ذلك.
رواندا
بعد المجازر المروعة عام 1994، أنشأت محاكم شعبية لمحاكمة الجناة، وواجهت الحقيقة بكل قسوتها. اليوم، رواندا من أكثر دول إفريقيا استقرارًا وازدهارًا، لأنها لم تتواطأ مع المجرمين.
البوسنة
رغم التعقيدات العرقية والسياسية، جرت محاكمة مجرمي الحرب في لاهاي، ما ساهم في تهدئة النفوس وإرساء مصالحة حقيقية، لا سطحية.
ألمانيا بعد النازية
حُوكم مجرمو الحرب في محاكمات نورمبرغ، فلم يُترك هتلر وأشباهه يتحولون إلى “رموز وطنية”، بل تم تعرية جريمتهم، ورفع الضحايا.
جنوب إفريقيا
واجهت نظام الفصل العنصري بمحكمة “الحقيقة والمصالحة”، وفتحت الباب أمام الجلادين للاعتراف الكامل مقابل العفو، لكنه لم يكن عفوًا مجانياً، بل مشروطًا بكشف الحقيقة الكاملة، فكانت النتيجة سلامًا مبنيًا على الصراحة لا على الإنكار.
في المقابل، انظر إلى لبنان، حيث قررت الطبقة السياسية نسيان الحرب الأهلية، ومنحت زعماء الميليشيات مناصب وزارية، فتحول البلد إلى كيان هشّ لا يُحكم إلا بالخراب.
أما سوريا، فإن الحديث عن “السلم الأهلي” في ظل تبييض صفحة الشبيحة ومجرمي الحرب هو وصفة لإعادة الانفجار، لا لمنع الحرب. لا يمكن لأي وطن أن يُبنى فوق جماجم الأبرياء دون عدالة. لا يمكن للضحايا أن يعودوا مواطنين دون اعتراف بحقهم.
في الختام
إلى كل من “كوع” في منتصف الطريق، وتحوّل من معارض إلى مؤيد، أو من ثائر إلى واعظ في فضائل “الاعتدال” الزائف نقول:
العدالة ليست خيارًا سياسيًا، بل ضرورة وجودية. ومحاسبة المجرمين ليست نزوة، بل حقٌّ لا يسقط بالتقادم. وإن كانت الدولة لا تريد تحقيقه، فالشعب باقٍ لينتزع ذلك الحق.
الضحايا لا يُنسَون، ولا يُشترى صمتهم بالشعارات.
والأوطان لا تُبنى بتكرار الخطأ، بل بتصحيحه.
أما التطبيل… فسيبقى موجودًا، لكنه لن يغيّر من الحقيقة شيئًا.
———
عبدالناصر عليوي العبيدي