مرة أخرى تتجدد حالة الجدل والاستياء الشعبي في العراق على خلفية الأنباء المتداولة عن إيفاد رئيس الوزراء محمد شياع السوداني مبعوثه الشابندر للقاء “أحمد الشرع حالياً، وأبو محمد الجولاني زعيم هيئة تحرير الشام في سوريا سابقاً. يأتي هذا التطور رغم الرفض الشعبي الواسع الذي أعقب لقاء السوداني نفسه بالجولاني في وقت سابق والذي أثار موجة من الانتقادات والاستهجان خاصة وأن الجولاني مطلوب للقضاء العراقي بتهم تتعلق بالإرهاب.
هذه الخطوات المتتالية تثير العديد من التساؤلات المشروعة والمقلقة حول بوصلة السياسة الخارجية العراقية وموقف الحكومة من تطلعات ومشاعر الشعب ودور القوى الإقليمية والدولية في توجيه هذه السياسات.
أهو استهزاء بمشاعر العراقيين
إن تكرار مثل هذه اللقاءات رغم الرفض الشعبي الواضح والصريح يضع علامات استفهام كبيرة حول مدى احترام الحكومة العراقية لمشاعر أبناء شعبها. لقد عانى العراقيون الأمرين من الإرهاب والجماعات المتطرفة وقدموا تضحيات جسامًا في سبيل مكافحتها. أن يُنظر إلى زعيم مطلوب للقضاء العراقي على أنه شخص يمكن إجراء حوارات رسمية معه يمثل صدمة للكثيرين وقد يفسر على أنه استخفاف بهذه التضحيات واستهزاء بالرأي العام. فهل تقول الحكومة للعراقيين أن رفضكم لا يعنيها بشيء، هذا التصور إن ترسخ سيزيد من الشرخ بين الشارع والسلطة ويقوض الثقة في المؤسسات الحكومية.
ضغط أمريكي أم قرار عراقي سيادي
لا يمكن إغفال البعد الإقليمي والدولي في تحليل مثل هذه التحركات. فهل هذه الهرولة نحو سوريا ولقاء شخصيات مثيرة للجدل تأتي نتيجة ضغط أمريكي على الحكومة العراقية؟ إذا كان الأمر كذلك فإن على رئيس الوزراء السوداني أن يعلن ذلك للعلن. إن مصارحة الشعب بحقيقة الضغوطات الخارجية إن وجدت قد تحافظ على جزء من رصيده الشعبي وتجنبه اتهامات التهاون أو التنازل عن السيادة. فالشعب العراقي رغم تفهمه للتعقيدات الجيوسياسية لن يقبل بأن تكون بلاده ساحة لتصفية الحسابات أو تنفيذ أجندات لا تخدم مصالحه العليا.
أما إذا كان هذا القرار نابعًا من قناعة الحكومة العراقية نفسها فهذه كارثة بكل المقاييس. فما المصلحة الوطنية التي تدفع العراق الذي خرج لتوه من حرب ضروس ضد الإرهاب إلى التقارب مع شخصيات متورطة في سفك دماء العراقيين، هذا يطرح تساؤلات جدية حول مدى وضوح الرؤية الاستراتيجية للحكومة وأولوياتها في التعامل مع ملفات الأمن القومي.
هرولة عكسيّة نحو سوريا
من المنطق والعرف الدبلوماسي أن تكون الدول التي تعاني من مشاكل أمنية داخلية هي من تسعى للتقارب مع الدول المستقرة وأن تكون هي الطرف الذي يطمح في الحصول على الدعم والاعتراف. العراق كدولة ذات سيادة ووزن إقليمي والذي دفع ثمناً باهظاً بسبب الإرهاب القادم من سوريا وغيرها كان من المفترض أن يكون هو الطرف الذي يُنتظر منه استقبال الوفود لا أن يُرسل مبعوثيه للقاء شخصيات مثيرة للجدل في سوريا.
إن دماء العراقيين التي سالت والمجازر التي ارتكبت والمصائب التي حلت بالبلاد بسبب الجماعات الإرهابية التي اتخذت من سوريا منطلقًا لها في فترات معينة تستدعي موقفًا مختلفًا. كان من المتوقع أن يكون العراق في موقع المطالب لا في موقع المتساهل. هذه الهرولة نحو سوريا وبهذه الطريقة لا تتسق مع حجم التضحيات التي قدمها العراق.
السؤال المُرّ: إلى متى ستظل السياسة العراقية عرضة للتقلبات والتناقضات؟ وهل سيظل صوت الشعب مغيباً ومصالحه العليا رهينة لقرارات قد لا تخدم إلا أجندات معينة؟ هذه الاستفهامات تحتاج إلى إجابات صريحة وواضحة من قبل القيادة العراقية، لكن هل من أحد يرد على تساؤلاتي التي لا اعتبرها مجرد همسات فردية بل هي صدى لمشاعر قطاع واسع من الشعب العراقي الذي يراقب المشهد بقلق متزايد. إن غياب الشفافية وعدم تبرير هذه التحركات المثيرة للجدل يزيد من حالة الإحباط واليأس. المطلوب اليوم ليس فقط تبريرات بل مراجعة شاملة للمسار الذي تسلكه السياسة الخارجية العراقية بما يضمن الحفاظ على السيادة الوطنية وصيانة كرامة الشعب وحماية مصالحه العليا وعدم التهاون مع من تسبب في سفك دماء أبنائه. إن الصمت لن يكون حلاً والشعب العراقي يستحق أن يعرف ما يدور خلف الكواليس ومن يتخذ القرارات التي تمس حاضره ومستقبله.